مصطفى عبد السلام يكتب: مصر وتعويم الجنيه.. هل فات الأوان؟
يوم الأربعاء الماضي كان هو الأصعب على الأسواق المصرية خلال السنوات الأخيرة، حين استيقظ الرأي العام على قرارات عنيفة للبنك المركزي في مقدمتها تعويم الجنيه مقابل الدولار بنسب أعلى من المتوقع، وتحرير سوق الصرف الأجنبي، والتخلي عن سياسة تثبيت سعر الدولار عند 30.85 جنيهاً، وزيادة سعر الفائدة بنسبة 6% دفعة واحدة لتتجاوز 27%، وهي زيادة لم تشهدها الأسواق منذ سنوات.
أعقب القرار مباشرة اعلان صندوق النقد الدولي موافقته على منح مصر قروض جديدة بقيمة 6.2 مليارات دولار ليرتفع القرض الحالي من 3 مليارات إلى 9.2 مليارات دولار.
واكب تلك الخطوات رفع البنوك العامة أسعار الفائدة لتصل إلى 30% على الشهادات الادخارية، وهي نسب لم تصل إليها السوق منذ سنوات طويلة، مع التكالب الشديد على شراء الدولار، وإعلان الحكومة عن استيراد مليون طن من السكر خلال العام الجاري، وإعلان عدد من مسؤولي البنوك عن التوجه لرفع القيود على بطاقات الائتمان، كما طلب البنك المركزي من البنوك مراجعة الطلبات العالقة لتدبير النقد الأجنبي، والتي يتم موافاة البنك بها بصفة دورية.
صحيح أن الجميع كان يترقب قرار التعويم الرابع للجنيه المصري، وصحيح أيضا أن هناك إشارات عدة صدرت بشأن قرب موعد التعويم خاصة مع الحديث الإعلامي المكثف عن تهاوي سعر الدولار وانهيار السوق السوداء للعملة ووصول سيولة دولارية قيمتها 10 مليارات دولار من الإمارات.
وصحيح ثالثاً أن إشارات عدة صدرت من صندوق النقد الدولي وحلفاء مصر الدوليين والإقليميين إلى قرب ضخ مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد المصري، وهو ما يعني قرب التعويم.
لكن الجميع فوجئ بنسبة التراجع الحادة في قيمة الجنيه المصري والتي تجاوزت 60% حتى ظهر أمس، فأغلب التوقعات كانت تضع سعر الدولار حول 40 جنيهاً، أو بين مستوى 40 و45 جنيهاً في أسوأ السيناريوهات، وكانت تضيف لسعر الفائدة الحالي 2% فقط وليس 6% مرة واحدة.
قرار التعويم ستكون له تداعيات سريعة منها ما هو إيجابي مثل زيادة تحويلات المصريين العاملين في الخارج والتي تراجعت بشدة في آخر عامين، وإعادتها إلى مكانها الطبيعي في البنوك وقطعها عن السوق السوداء التي توحشت خلال الشهور الماضية.
والتعويم قد يعيد الاستقرار لسوق الصرف الأجنبي المضطرب، وربما القضاء على السوق السوداء للعملة أو الحد من تأثيراتها لاحقاً.
وهذه الخطوة ستكون لها انعكاسات إيجابية على مناخ الاستثمار المباشر ووضع حد لتردد المستثمرين الأجانب الراغبين في دخول مصر.
والأهم معالجة ظاهرة العجز الخطير في أصول البنوك من النقد الأجنبي والتي بلغت قيمتها نحو 29 مليار دولار بنهاية يناير الماضي.
لكن، في المقابل، فإنّ هناك تأثيرات خطيرة لقرار التعويم والإجراءات المصاحبة له، فالتعويم سيؤدي إلى حدوث قفزات في أسعار السلع الرئيسية وعودة معدل التضخم للارتفاع ورفع كلفة المعيشة، وهو ما يعني دهس ملايين المصريين، وقذف المزيد منهم في آتون الفقر والجوع والغلاء، والقضاء على ما تبقى من الطبقة الوسطى.
وهنا على الحكومة أن تسارع بتوفير برامج حماية اجتماعية ضخمة مع التركيز على الطبقات الفقيرة التي ليس لها دخل ثابت أو حتى متغير، وهؤلاء عددهم بالملايين.
كما يجب على الحكومة التوقف عن تطبيق سياسة «النيوليبرالية» المتوحشة، وفرملة برامج خفض الدعم وزيادة أسعار السلع الرئيسية بما فيها الغذائية، بل العمل على خفضها، بخاصة أن الأسعار تتراجع عالميا كما كشفت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «فاو» قبل أيام.
كما أن توفر سيولة دولارية لدى الحكومة سيمكنها من فتح باب استيراد السلع الغذائية وحل أزمة السلع الراكدة لدى الموانئ.
زيادة سعر الفائدة على الجنيه قد تعيد الأموال الساخنة إلى مصر، وهي التي هربت كلية عقب اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022، وهذه الأموال رغم مخاطرها الشديدة على الاقتصاد والموازنة العامة استخدمها البنك المركزي المصري لدعم استقرار سوق الصرف في السنوات التي أعقبت التعويم الأول للجنيه في نهاية عام 2016.
والأخطر في قصة زيادة سعر الفائدة هي تأثيراتها الخطيرة على الدين العام، فرفع الفائدة بنسبة 1% سيؤدي لتحمل خزينة الدولة تكلفة إضافية 70 مليار جنيه وفق أرقام وزير المالية محمد معيط. فما بالنا إذا كانت الزيادة 6%؟
مع تعويم الجنيه 4 مرات خلال فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 3 سنوات فإنّ على صانع القرار السياسي والاقتصادي في مصر أن يدرس مخاطر تلك الخطوات على الاقتصاد والأسواق والمواطن والاستثمار سواء الأجنبي أو المحلي.
وأن يعمل هؤلاء على وضع حلول عاجلة لأزمات الاقتصاد الحادة ومنها اهتزاز الثقة في العملة المحلية، والتضخم المرتفع والغلاء المتواصل وتفاقم الدين الخارجي وضخامة الأعباء المستحقة عليه، واستمرار الفجوة التمويلية، والتوسع في سياسة بيع الأصول، حتى لا نفاجأ بتعويم جديد، وهنا يكون الأوان قد فات.
وأن يدرك صانع القرار أنّ سياسات الترقيع بما فيها حتى زيادة الرواتب لم تعد تجدي نفعاً، وأنّ الجري وراء القروض الخارجية والأموال الساخنة ضرره أكبر كثيراً من نفعه، وأن المطلوب اصلاح اقتصادي شامل وحقيقي وليس ورقياً يتم على ألسنة الوزراء وكبار المسؤولين وفي برامج الفضائيات وعلى صفحات الصحف.