في شهر يونيو من كل عام يستيقظ المصريون على عشرات الحرائق هنا وهناك، وكانوا يربطون بين تلك الحرائق المشتعلة في هذا التوقيت والفساد المالي والإداري المستشري داخل الأجهزة الحكومية، فقبل قدوم السنة المالية في الأول من شهر يوليو وبدء موسم الجرد والمراجعة المقررة كل عام يجري إشعال النيران بفعل فاعل في المخازن والشركات العامة والمصانع والمصالح الحكومية، حتى تجري التغطية على أي مخالفات مالية أو شبهات فساد وسرقات للمال العام، وما أكثرها.
وكان الماس الكهربائي هو المتهم الأول في حرائق مصر الكبرى، سواء التي كانت تجري داخل المصالح الحكومية والشركات العامة والمرافق، أو الأخرى التي هزت الدولة في سنوات سابقة مثل حرائق: قصر ثقافة بني سويف 2005، وقطار الصعيد 2002، ومجلس الشورى 2008، ومركز المؤتمرات الدولي بمدينة نصر 2015، وحريقي سوق الرويعي بمنطقة العتبة بوسط القاهرة 2016 و2024، وحريق كنيسة أبو سيفين بحي إمبابة بالجيزة، عام 2022 الذي راح ضحيته 41 شخصاً.
لكن المصريين فوجئوا هذا العام بموسم حرائق عنيف ومختلف من حيث التوقيت والهدف والتأثير، فالحرائق اشتعلت في يوليو وليس في يونيو كما جرت العادة، وجرت في مناطق متفرقة وتوقيت متزامن وقريب جداً، ولم تقتصر على المؤسسات الحكومية، بل انتقلت إلى قطاعات خدمية وحيوية أخرى ومؤسسات تابعة للقطاع الخاص، وأثارت الذعر بين الرأي العام المصري الذي راح يتساءل عن الفاعل الرئيسي، والتوقيت، وأبرز المستفيدين من حالة الذعر الشديدة التي صاحبت تلك الحرائق الكارثية والتي تقدر خسائرها بمليارات الجنيهات، بسبب ضخامة التداعيات على الأنشطة المختلفة.
حريق سنترال رمسيس كان أبرز مثال على حرائق يوليو، حيث التهمت النيران أحد أهم مراكز الاتصالات الرئيسية والبنية التحتية الرقمية في العاصمة القاهرة، وخلّف وراءه خسائر اقتصادية فادحة تمثلت في تعطل الأنشطة الرقمية في الدولة وقطاعات حيوية منها الاتصالات والإنترنت الأرضي وأنشطة مصرفية منها التحويلات المالية وأجهزة الصراف الآلي وغيرها.
وانتقلت الحرائق بسرعة إلى قطاعات وأنشطة حيوية أيضاً ما بين فنادق سياحية كما جرى في القاهرة والإسكندرية، وأسواق ومحال ومولات تجارية، ومصانع وعقارات وغيرها، حيث التهمت النيران مول دبي في الشيخ زايد، ومصانع في العاشر من رمضان ودمياط وبدر، وامتدت النيران لمحطات محولات كهرباء حيوية، كما جرى في مناطق الورديان بالإسكندرية، والصف وأبو النمرس في الجيزة وبردين بالشرقية، وأدت الحرائق إلى انقطاع الكهرباء بمنطقة العاشر من رمضان الصناعية، نتيجة اشتعال النيران بمحطة محولات 66. وحدث عطل كبير بمحطة كهرباء الشباب بالإسماعيلية، تسبّب في خروج المحطة عن الخدمة التي تقوم بإنتاج وتوليد 1050 ميجاوات من الطاقة الكهربائية.
وكالعادة أصابت الحرائق منطقة الموسكي بالقاهرة ومصر القديمة، واليوم اشتعلت في مول سيراميكا في مدينة السادس من أكتوبر، ومسرح بالساحل الشمالي. صاحب كل تلك الحرائق قصور حكومي شديد في إدارة الأزمة. وبدلاً من أن تخرج علينا أجهزة الدولة بتفسير مقنع لتلك السلسلة من الحرائق الكارثية، راح إعلاميون قريبون من دوائر صنع القرار يروجون لنظريات لا علاقة لها بالواقع، منها احتمالية أن تكون الحرائق عملاً تخريبياً متعمداً ومؤامرة كونية تستهدف مصر وإسقاط الدولة بإشعال الحرائق بها، وتأكيد شخصيات محسوبة على السلطة الحاكمة أن الهدف من إشعال تلك الحرائق هو زيادة الاحتقان في الداخل، وضرب الاصطفاف الوطني.
وبعيداً عن تلك التفسيرات الهلامية، فإن السؤال الذي لا يزال مطروحاً هو: من اليد الخفية التي تقف وراء تلك الحرائق، ولماذا الآن، وما الذي يضمن عدم تكرارها، وما حجم تأثيراتها في الاقتصاد والمواطن؟