مصطفى عبد السلام يكتب: هل تعي الحكومة المصرية الدرس؟
يبدو أن الحكومة المصرية ستظل تنظر دوماً تحت قدميها من دون أن تطيل النظر إلى الأمام ولو قليلاً، ومن دون الاستفادة من تجارب الأزمة الأخيرة القاسية التي كادت تعصف بالاقتصاد وأنشطته ومؤسساته وقطاعه المالي وسوق الصرف الأجنبي، بل أحياناً ما توجه تلك الحكومة طلقات الرصاص إلى قدميها مباشرة من دون أن تشعر أنها تؤذي نفسها ومن حولها.
فبدلاً من أن تستغل الدعم الإقليمي والدولي الحالي غير المسبوق للاقتصاد المصري، راحت تفتش في دفاترها القديمة وتبحث عن حلول ضررها في التطبيق أكثر من نفعها، وتتبنى سياسات اقتصادية ومالية ثبت فشلها وخطورتها سواء على الدولة والاقتصاد أو على المواطن والأسواق.
وبدلاً من أن تستغل الحكومة تلك الأجواء الإيجابية في تهيئة المناخ لجذب مزيد من الاستثمارات الخارجية المباشرة، وتهتم بالقطاع الانتاجي والصناعي والتقني والمشروعات التصديرية وحل المشاكل العالقة به منذ سنوات، وتحد من الاقتراض الخارجي، وتبحث عن حلول لملف المصانع المغلقة المزمن، راحت تبحث عن الأموال الساخنة لتستقطبها مرة أخرى باعتبارها الملاذ السريع لدعم استقرار سوق الصرف الأجنبي والدفاع عن العملة المحلية والقضاء نهائياً على السوق السوداء.
متناسية أن تلك الأموال أضرّت بالاقتصاد المصري بصورة قاتلة حينما انسحبت جماعيّاً في بداية العام 2022 وهربت ومعها 23 مليار دولار، مخلفة وراءها أزمات عنيفة أدت إلى تعويم الجنيه المصري 3 مرات في فترة لا تزيد كثيراً عن 3 سنوات.
كما أدت إلى الضغط على موازنة الدولة وزيادة الدين العام وهز ثقة المستثمرين الأجانب والعرب في الاقتصاد المحلي، والتشكيك في قدرته على مواجهة الصدمات.
وبدلاً من أن تضع الحكومة خطة واقعية وعاجلة لاحتواء أزمات الاقتصاد المصري ومنها ضخامة الدين الخارجي، والعجز المزمن في الميزان التجاري، واستمرار الفجوة التمويلية، وتراجع موارد الدولة الدولارية خاصة من قطاعات حيوية مثل تحويلات العاملين في الخارج والصادرات والسياحة وقناة السويس والاستثمار المباشر، راحت تعيد الكرّة وتبحث في اقتراض مزيد من الأموال بغض النظر عن التكلفة، وتتحدث عن خطة لاقتراض قروض تتجاوز قيمتها 20 مليار دولار معظمها من صندوق النقد والبنك الدوليين وخلال فترة ليست بالكبيرة.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه المواطن رسائل جادة على توجه الدولة نحو ترشيد الإنفاق الدولاري فوجئ بتصريحات لرئيس هيئة قناة السويس بشأن إقامة قناة موازية بكلفة مليارات الدولارات في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد جفافاً من السيولة الدولارية.
كما فوجئ المواطن بالإصرار على إقامة نهر صناعي يطلق عليه النهر الأخضر في العاصمة الإدارية يحوي بحيرات اصطناعية وتتجاوز تكلفة مرحلته الأولى 9 مليارات جنيه، ويقع على 20 ألف فدان، ويعد أكبر متنزّه من نوعه في العالم حيث تبلغ مساحته 10 أضعاف السنترال بارك في نيويورك وثلاثة أضعاف حديقة هايد بارك الموجودة في العاصمة البريطانية لندن.
وهنا يضرب المواطن كفّاً على كف متسائلاً: هل هذا وقت تلك النوعية من المشروعات التي لن تضيف شيئاً إلى أساسيات الاقتصاد وقطاعه الإنتاجي، بل تمثل عبئاً على المواطن ودافعي الضرائب والأسواق والموازنة العامة؟
ولأن الحكومة تبحث عن الشو الإعلامي وتعشق الأرقام الجامبو فقد فوجئ الرأي العام قبل أيام بإعلان إقامة أكبر مرصد فلكي في الشرق الأوسط، يتم إنشاؤه ليكون بديلاً من مرصد القطامية الفلكي، وبتكلفة تقديرية تبلغ 100 مليون دولار، رغم وجود مرصد القطامية الذي أنشئ عام 1964، ليكون امتداداً لمرصد حلوان الذي تم تدشينه عام 1903.
وبدلاً من استخدام وسائل نقدية وفنية محترفة لمواجهة السوق السوداء للعملة والقضاء عليها نهائياً، راحت تتحدث بتوسع عن استخدام القبضة الحديدية وكلمات عسكرية مثل الحرب في مواجهة تلك السوق والأطراف المرتبطة بها من مضاربين وتجار عملة وغيرهم.
بالتأكيد لا أحد يرفض استخدام سلاح القانون في مواجهة التجارة غير المشروعة في العملة وإعادة الاستقرار إلى سوق الصرف والقضاء على حالة الاضطراب التي لازمته في الشهور الأخيرة.
لكن على الحكومة أن تدرك أن القبضة الحديدية ليست العلاج الوحيد والأول لأي اضطرابات محتملة في تلك السوق، وأن المهم هو أن تركز أكثر على الوسائل الفنية ومنها العمل على زيادة السيولة الدولارية في السوق وتوفيرها للفئات التي تحتاج إليها ومنها المستوردون والمصنعون والشركات الأجنبية العاملة في مصر.
وبدلاً من الدخول في مفاوضات مع مستثمرين عرب وأجانب للاتفاق على ضخ استثمارات مباشرة وتأسيس مشروعات جديدة في قطاعات إنتاجية تساهم في زيادة الصادرات والنقد الأجنبي والحد من الواردات والطلب على العملة وتوفير فرص عمل لملايين العاطلين عن العمل، راحت الحكومة تعيد مرة أخرى نغمة التوسع في بيع أصول الدولة من شركات وبنوك وفنادق وأراضي، وكأن هذا هو الحل الناجح لأزمات الاقتصاد وتوفير سيولة دولارية عاجلة.
وبدلا من أن تواجه التضخم وغلاء الأسعار باعتباره أكبر تهديد للاقتصاد وقيمة العملة وسوق الصرف والعملة المحلية ومدخرات الأفراد، راحت الحكومة نفسها تغذي تلك الموجة عبر زيادة الدولار الجمركي 30.95 دولارا إلى 49.56 دولارا، وزيادة الأسعار والرسوم الحكومية وآخرها زيادة رسوم لوحات السيارات واستخراج جواز السفر.
الأموال الساخنة عبر رفع سعر الفائدة لمعدلات غير مسبوقة تتجاوز 30% ليست حلّاً لأزمات الاقتصاد، بل هي عبء كبير على ميزانية الدولة وقبلها على دافعي الضرائب الذين يسددون وحدهم مخاطر تلك الأموال والمليارات التي يحصدها المستثمرين الأجانب خلال فترة زمنية وجيزة، وبيع الأصول تأكل من موارد الدولة ولا تضيف إليها، بل تؤثر بخطورة على الإيرادات العامة في المستقبل، ومخزون الدولة وحقوق الأجيال المقبلة.
على الحكومة المصرية أن تتوقف فوراً عن الاقتراض الخارجي إلا لمشروعات تدر عائداً بالدولار، وأن تتوقف عن تمويل أي مشروع ترفيهي بالنقد الأجنبي، فالمواطن لن يموت إذا لم يتم بناء أكبر مدينة ترفيهية داخل العاصمة الإدارية.
ولن يجوع إذا لم نبنِ له أكبر دار أوبرا ومدينة فنون في منطقة الشرق الأوسط، ولن يفوته صيام إذا لم تُقم له الحكومة أكبر مرصد فلكي في الشرق الأوسط، وبالتأكيد لن يكون سعيداً بحكومة تشق نهراً اصطناعياً ضخماً في العاصمة الجديدة في الوقت الذي يعاني فيه غلاء المعيشة والبطالة والفقر وتآكل مدخراته وتهاوي قدرته الشرائية.
وعلى الحكومة أيضاً ألا تعول كثيراً على الأموال الساخنة بسبب مخاطرها المدمرة للاقتصاد والدين العام، بل أن تتجاهل تلك الأموال إذا أرادت المحافظة على استقرار حقيقي لسوق الصرف، لا استقرار مفتعل كما حدث قبل سنوات، وأن تركز على تنشيط الصادرات والسياحة وإعادة ثقة المصريين العاملين في الخارج.
وأن تعيد النظر في ملف الضرائب التي باتت تشكل النسبة الأكبر من الإيرادات العامة، وأن تبدأ خفض تلك الضرائب لا زيادتها، لأن الزيادة قد تؤدي إلى ارتفاع منسوب التهرب الضريبي وزيادة كلفة الإنتاج وتعطل الاستثمار. والأهم أن تعمل على سد الفجوة في عجز أصول البنوك من النقد الأجنبي والتي تقترب من 30 مليار دولار، لأن تلك الخطوة ستزيد من ثقة المودعين في القطاع المصرفي.
والأهم جداً أن تتخلى الحكومة عن شعار “أحيني اليوم وأمتني غداً”، فهو شعار مدمر لأنه يتعامل مع الأزمات قصيرة الأجل، ويركز على علاج الأزمات اليومية، لا على رسم خطة واستراتيجيات متوسطة وطويلة الأجل تبني دولة وتصنع تنمية حقيقية وإصلاحاً اقتصادياً حقيقياً، لا إصلاحاً على الورق.