مضر أبو الهيجاء يكتب: التجربة الإسلامية السورية والمعارك الثلاثة!
إضاءات أمنية سياسية منهجية حضارية

من نافلة القول الإشارة الى طبيعة الصراع المعقد والحساس والمتداخل القائم على أرض الشام، حيث تتداخل شرور المشاريع الثلاثة (مشروع طغيان السلطة-مشروع الطوائف الباطنية-المشروع الصليبي الصهيوني).
من المؤكد أن مشروع التغيير والتدافع الحضاري بين المسلمين والمشاريع المعادية قد أحدث منعرجا حقيقيا من خلال ثورات الربيع العربي التي زهق خلالها ملايين المسلمين، وهو ما تدحرج ككرة الثلج حتى أثمر تحرير مدن سورية، الأمر الذي يشير الى خلل وتضخيم غير صحيح عند من جعل عملية 7 أكتوبر سببا فيما تحقق على أرض الشام!
لقد انطلقت ثورات الربيع العربي لمواجهة الأنظمة الرسمية المستبدة، وما لبثت تخوض غمار الثورة حتى غرقت في أتون حروب استنزاف شرسة مع إيران وأذرعها -وذلك برعاية أمريكية وتوافق مع إسرائيل-، حيث استهدفت حرق وحرف الثورات وقتلها وتمزيق أهلها لصالح المشروع الأمريكي وإسرائيل، وطمعا في تحصيل نفوذ أكبر على أرضية التخادم مع السيد الأمريكي مدير المنطقة.
أما عملية 7 أكتوبر وما سمي بطوفان الأقصى، فقد بنى نظريته في التغيير بناء على تصوره الشغوف بالعلاقة والحلف الفولاذي مع أعداء الأمة وقتلة شعوبها الملالي الإيرانيين، مؤمنا بدورهم الأصيل بتحرير فلسطين واسترداد أقصى المسلمين!
ويمكن القول بكل وضوح، إن الثمرة التي حصلها مشروع التغيير الإسلامي في أرض الشام بسورية هي نتاج ثورات الربيع العربي، حيث استفاد الثوار السوريون من صوابها وأخطائها، حتى حققوا تحرير مدن سورية في ظل احتراب دولي.
أما الخسارة والفشل والتراجع والخزي الذي تحقق في المعادلة الفلسطينية، على مستوى شعبها وأرضها وقضيتها، فقد جاء ثمرة ونتيجة للعلاقة الخاطئة بين مكون جهادي عنوانه التحرير ولتكون كلمة الله هي العليا، ومكون عدائي عنوانه القتل والتشريد والاحتلال ويسعى لتكون كلمة الله هي الدنيا.
لقد هزم المسلمون في فلسطين شر هزيمة، وانتصروا في سورية انتصارا مشرفا، وهي معادلة تعكس سنن الله التي لا تحابي أحدا، وما وقع به أهل الشام في فلسطين يجب ألا يكرروه في سورية.
إن العالم العربي والإسلامي وحركات التغيير يعولون اليوم على نجاح التجربة الإسلامية في سورية، حتى يتحقق التمكين بشكل حقيقي -والذي لم يتحقق بعد-، وحينها سيبدأ سلم الصعود الحضاري في الأمة، ويرى أثره بوضوح في مصر والعراق والخليج.
فما هو واقع التجربة الإسلامية السورية التي تتوسطها وتحيط بها المشاريع المعادية التي تسعى للنيل منها؟
لقد انطلق ثوار الشام لمواجهة مشروع طغيان السلطة، والذي تمثل في مواجهة النظام السوري وعائلة الأسد المجرمة، وهو ينتقل اليوم من هذه المعركة الابتدائية -التي رعاها وأطال عذاباتها الغرب وأمريكا-، الى معركة وسطى تتمثل في صراع حقيقي بين المشروع الإسلامي ومشاريع الطوائف المعادية وغير المنتمية، ليصل بعدها للمعركة النهائية مع المشروع الصليبي الغربي وأمريكا المجرمة.
إن تعقيد وحساسية الصراع القائم على أرض الشام يكمن في تداخل وتواصل رهيب بين مشروع طغيان السلطة، والذي يمثل المعركة الابتدائية، ومشروع الطوائف، والذي يمثل المعركة الوسطى، ومشروع الغرب المتصهين، والذي يمثل المعركة النهائية والكبرى.
لقد اجتاز ثوار الشام الأبرار المعركة الابتدائية بنجاح، وقد مكنهم الله من رسم خاتمتها بشكل موفق ومبهر.
لكن ثوار الشام اليوم قد ولجوا في عمق المعركة الوسطى، لاسيما بعدما اتخذوا قرارهم باستيعاب الدروز والأكراد الانفصاليين في صلب منظومة الحكم.
وإذا كانت منظومة بشار الأسد قد مارست دور الضبع القاتل، فإن المنظومة الطائفية المتمثلة بالدروز والنصيريين المعادين، والأكراد الانفصاليين ستقوم بدور الأفعى السامة في الجسد السوري الواعد والدولة الجديدة، وذلك تحت رعاية ونظر الشيطان الأمريكي الذي يكيد كيدا للمنطقة.
ورغم وجاهة ونجاح خطوة الرئيس أحمد الشرع في استيعابه لقسد والدروز، وذلك لمنع تفتيت سورية الذي تسعى إليه إسرائيل والغرب، إلا أنه في نفس الوقت قد فتح الباب للأفاعي الخطيرة لتتسرب الى أركان الدولة الجديدة، ولتتموضع في حفر عميقة تحميها وبنفس الوقت تمكنها من بث سمومها وقرص وقتل من تريد غيلة وبصمت!
وقبل أن يصل ثوار الشام إلى المعركة النهائية المفروضة بين شعوب الأمة جمعاء وبين المشروع الغربي -الذي يرفض انعتاقها السياسي-، فإن ثوار الشام الأبرار أمام تحديات كثيرة موجعة مرة وأليمة، حيث سيواجهون خلالها صنوفا من الغدر وتجرع السموم، وذلك من قبل ثعابين المشروع الطائفي والانفصاليين الأكراد والنظام العربي الرسمي!
إن خطورة وحساسية المعركة الوسطى التي ابتدأت في سورية -بعد أن قص شريطها الكاهن الأمريكي محركا النصيريين والدروز والأكراد الانفصاليين- تكمن في أن مخاطر وشرور تلك المشاريع انتقلت من خارج الجسد الى داخله.
من نافلة القول، أن المشروع الغربي الصهيوني الذي ترأسه وتديره أمريكا اليوم، يملك أدوات كبرى وأخرى صغرى، حيث يحتاجها ويستخدمها في إتلاف المنطقة العربية والإسلامية ومنع نهضتها وإزهاق شعوبها، وإذا كانت أدواته الكبرى هي إسرائيل وإيران، فإن أدواته الصغرى هي الطوائف المعادية والأكراد الانفصاليين الملاحدة والأنظمة العربية الوظيفية المستبدة.
لقد نجح الرئيس السوري أحمد الشرع في إحباط مخطط تقسيم سورية -بشكل مبدئي في المرحلة الحالية-، وذلك من خلال استيعابه للأكراد الانفصاليين (قسد)، واستيعابه للحالة الطائفية الدرزية والنصيرية -بشكل عام لا يزال التفاهم والاتفاق هشا سطحيا يتصل بالعوام ولم يبدل حقيقة وموقف النخب والقيادات-.
كما نجحت أمريكا في نقل أدواتها الصغرى الثلاثة إلى بطن وداخل مكون الدولة السورية الكنز الجديد -باعتبار أن امتلاك واسترداد الدولة هو كنز، وهو أحد الثمرات الكبرى لجهاد الشعب السوري طيلة عقد ونصف، ومن قبله أربعة عقود ونصف تخللها عذابات من صنوف شتى لم تشهدها البشرية قط-.
إن المعركة اليوم في سورية هي معركة مصارين في داخل البطن السوري الجديد، بامتياز، ولكنها معركة غير ظاهرة التدابير والأفعال والامتدادات العميقة، وتكمن خطورتها في تموضع أطرافها شيئا فشيئا في تجاويف البطن السوري ومكون الدولة السورية الجديدة، وهو ما يطرح سؤالا جادا حول كيفية مواجهة هذه التحديات الجديدة المعقدة والمميزة بحدتها وتناقض وتباين أطرافها سياسيا ودينيا وثقافيا.
إن تلك الأدوات أطراف مغرضة لن تهدأ سمومها حتى وان خمدت نيرانها قليلا، وهي إن لم تنجح في قضم أهداف الثورة السورية وتضحيات دماء أبنائها وجهاد ثورها الأبرار، فإن أقل ما يمكن أن تحدثه هو استنزاف طاقاتها وعضل مشروع نهضتها، لصالح التصورات الطائفية والعرقية وبناء المشاريع الذاتية، والتي كانت عبر كل حقب التاريخ مشاريع وظيفية للغرب وللشرق ولكل معتد على المسلمين.
إن الثعابين التي كانت بالأمس القريب تحاول فصل سورية وتقسيمها سياسيا، لن تتحول في غضون أيام لحمل وديع بمجرد أن نالت حظها من السلطة، بل الراجح -بحسب تصوراتها وأهدافها ونوعية قياداتها الحالية وإيقاع عملها خلال العقدين الأخيرين- أنها ستسعى قدر استطاعتها للاستفادة من مكون الدولة الذي ولجت إليه لتعزيز قدرتها على الانفصال المستقبلي، وتلبية وتحقيق أهداف الغرب الصليبي والصهيوني في اضعاف الجسم السوري، واكمال ما لم يستطع أن يكمله وكيل الغرب العبد الآبق بشار الأسد.
فكيف يجب أن تدار الأمور حتى نسوسها في اتجاه استكمال البناء اللازم؟
يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى مرتكزات ومنطلقات وخطوات هامة في سياق تلك المعركة الوسطى، بغية تجاوزها والانتصار على تحدياتها، ليتحقق النصر الثاني كما تحقق الانتصار لأول في المعركة الابتدائية.
مرتكزات المعركة الوسطى والحالية:
1/ التوكل على الله سبحانه وتعالى والانطلاق من الإيمان به واليقين بوعده والأخذ بالأسباب الشرعية والكونية الموجبة لتحقيق النصر، واعتبار معطيات الواقع الموضوعي.
2/ توسيع الطيف الإسلامي في إطار نسيج المكون الحاكم، والخروج الحقيقي من عقدة اللون الواحد إلى عقيدة الطيف المنسجم والفريق الموحد والواسع.
3/ الحلول العميق في وزارات الدولة السيادية، وعدم التنازل عنها وخوض المعارك لأجل التمكن الكامل منها، والحيلولة دون تكرار تجربة فتح الله جولن بتركيا.
4/ تجسيد الشورى الحقيقية، والبحث عن الأقوياء والأمناء في سورية وخارجها على حد سواء ودون تفريق.
5/ توسعة وتقوية وتعميق العمل المجتمعي على مستوى عموم شرائح الشعب السوري، حتى تتكون مؤسساته وتتشكل لها عضلات وصلاحيات، وذلك باعتبار المجتمع هو صمام الأمان الأخير في حماية التجربة الإسلامية ومشروع النهضة والهوية الثقافية.
6/ فتح باب الدعوة الإسلامية لأبناء وبنات الطوائف النصيرية والدروز وكذلك الأكراد الانفصاليين الملاحدة، وتشكيل أطر رسمية وشعبية لتحقيق هذا الهدف وتوفير ما يلزم له.
7/ إطلاق يد العلماء وتعزيز مكانتهم، ومنحهم حصانة حقيقية على مستوى المجتمع والدولة.
8/ الشفافية العالية في قضايا الشأن السياسي العام، وإشراك شرائح المجتمع بشكل حقيقي يفعل دورها ولا يهمشه، الأمر الذي يسهم في خلق حالة صحية مجتمعية متعافية من الأوهام تتحمل المسؤولية ولا تتعامى عن الواجبات.
9/ تشكيل وثيقة المدينة -التي أنجزها رسول الله صلى الله عليه وسلم- في الحالة السورية بما يتناسب وواقعها الموضوعي وبشكلها العصري الذي يجسد فقه السياسة الشرعية.
10/ إبراز الخطر الخارجي المتمثل في الكيان الصهيوني المحتل لجزء من أرض الشام هو فلسطين، وإذكاء مخاطره في الوعي الجمعي على أرض سورية -لاسيما لدى الأجيال الجديدة-.
الخلاصة:
إن التجربة الإسلامية السورية اليوم تعبر بشكل عميق عما تحلم به الأمة وتسعى لتحقيقه وهو مشروع النهضة الحضاري، ومفتاحه الأول هو انتزاع الإرادة السياسية المستقلة، وهو عين ما لا يسمح به الغرب، لاسيما وأن انعتاق أرض الشام من الهيمنة الغربية، يعني بالضرورة انعتاق خزان الأمة البشري في أرض الكنانة العظيمة، وهو ما يؤول تلقائيا لزوال الأنظمة العربية والإسلامية الوكيلة عن الغرب.
إن نجاح التجربة الإسلامية -الابتدائي- على أرض الشام في سورية -بعد فشلها في السودان وتونس والجزائر والمغرب واليمن ومصر والعراق وفلسطين- هو بداية الصعود الحضاري لمجموع الأمة، وإيذان بهدم كبير لمعسكر الباطل، وعمارة للأرض وتحرير للإنسان، لاسيما وشعوب الغرب والشرق تنتظر من يملك قيما ثابتة وحقيقية لينشلها من ضلال الفلسفات إلى هدي الدين، ومن ألوهية الأنظمة الحاكمة واستعبادها، إلى عدالة ورحمة الإسلام، ومن ظلام الدنيا وعسرها، الى سعة الدنيا وضيائها.
إن التحالف القائم والبدهي بين المشروع الغربي والمشروع الصهيوني والمشروع العربي الرسمي والمشروع الإيراني ومشاريع الطوائف الباطنية، قد التقى جميعه حول نقطة مركزية عميقة، ألا وهي التصدي لأي محاولة انعتاق وتحرر عربي واسلامي، وعضل أي مشروع نهضوي إسلامي، وعلى أرضية هذا التوافق يلتقي الأضداد، حتى المتنافسين في حروب النفوذ من كل الكيانات والمشاريع السابقة.
لقد شكل استرداد الدولة من قبل ثوار الشام منعطفا مهما خطرا وحساسا، لاسيما بعدما كانت الدولة مختطفة خلال قرن، ويزيد الأمر بريقا أن ما فشلت بتحصيله كل حركات التغيير -أو فرطت به بعدما حازته- نجحت بتحقيقه واقعا الثورة السورية، وذلك بعدما استشهد على هذا الطريق ملايين المسلمين منذ ستينيات القرن المنصرم وحتى ثورات الربيع العربي، مرورا بثورة الدستور وثورات الاخوان والطليعة المقاتلة قبل نصف قرن.
وهنا تجدر الإشارة إلى الثمرة التي وهبها الله بكرمه وفضله واحسانه لعباده الذين ثبتوا على الطريق، وكان شعارهم ما لنا غيرك يا الله، ولم يتحالفوا مع عدو من أعداء الأمة وقتلة شعوبها ومحتلي بلاد المسلمين، ولو أنهم فعلوا وزاغوا عن الطريق لما وصلوا، فهنيئا للثابتين على الصراط المستقيم حتى آخر الطريق خلف ورثة النبيين من العلماء الربانيين.
إن سابقة امتلاك المسلمين لركيزة الدولة – والتي تحققت في سورية- خطيرة جدا بالنسبة للمشاريع المعادية الغربية والصهيونية، الأمر الذي يعني بالضرورة عدم قبول الغرب بها، ومحاولة زعزعة استقرارها، وإيجاد جيوب ومناحي استنزاف دائمة فيها، وذلك حتى تحول دون تعافيها، وتمنع اشعاعها في المحيط، وهو ما استدعى إثارة الطوائف وفرض مصطلح الأقلية في سورية، رغم أنها لم تعرفه سابقا، وذلك ليكون مدخلا للتدخلات الغربية ونافذة لتمزيق البلاد وإرهاق الدولة وتشتيت المجتمع السوري وإفقاده لفاعلية البناء.
إن التجربة الإسلامية السورية أمام ثلاث معارك مقدرة عليها ولن يكتمل نورها واشعاعها حتى تتجاوزها كلها، أولها معركة التحرير، وثانيها معركتها مع أدوات الغرب الثلاثة، وثالثها معركتها مع الغرب بشكل مباشر.
نجحت التجربة الإسلامية السورية وحققت الانتصار الفريد في المعركة الأولى، وهي الآن تخوض غمار المعركة الثانية المترافقة مع تحدي بناء الدولة وتنظيم وتقويم المجتمع، وحتى تتجاوزها فستكون أمام المعركة الثالثة مع الغرب، والتي هي أهون المعارك الثلاثة.
إن واجب الوقت عند المسلمين تجاه التجربة الإسلامية السورية اليوم هو نصرتها وتقويتها لاسيما وشياطين الإنس ومشاريع الباطل تتكاتف في الداخل والخارج لإفشال التجربة الواعدة على أرض الشام المباركة.
لقد من الله على ثوار الشام الكرام بفتح فريد لمدنها الثائرة، وكما تفضل الله على الشام وأهلها بهذا الفتح، فقد ميز طليعة الفاتحين وقدر أن يكون على رأسهم أحمد الشرع، والذي أصبح رئيسا للبلاد، وقد تجسد فيهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، فكل يوم يطالعنا أهل الشام بخير جديد وابداع فريد، وذلك منذ أن زال الطاغية وتحرر الأسرى وزال الخوف وشاعت مناخات الحرية، فيا لها من نعمة عظيمة.
أحمد الشرع شهيد برتبة رئيس!
لا شك بأن حجم التحديات القائمة والمخاطر القادمة على سورية، كبيرة للحد الذي لا يطيقه فرد مهما ملك من قوة وعزم وذكاء ودهاء، وهو ما يوجب على القائد أحمد الشرع أن يفتح الباب أمام كل المصلحين الصادقين -وإن كانوا معه في الفروع مختلفين- ليأخذوا دورهم الكامل في الإصلاح والبناء، الأمر الذي يوجب على العلماء جسر الهوة بين المدارس الإسلامية السنية وجناحيها من السلفيين والأشاعرة.
إن كيمياء عالم السياسة تشير إلى أن حياة أحمد الشرع ستستهدف لعرقلة المسار، فهلا وعى -وفريقه ومن حوله- منهج القرآن في صلاة الخوف وجسدوها في ممارسة عالم السياسة؟