مضر أبو الهيجاء يكتب: التهجير قدر شعوب الأمة حتى تزول دولها الوطنية!

إضاءات أخلاقية منهجية سياسية

التهجير قدر شعوب الأمة حتى تزول دولها الوطنية
التهجير قدر شعوب الأمة حتى تزول دولها الوطنية

يتصاعد الحديث عن تهجير الفلسطينيين من قبل القوى المجرمة التي تتحكم بمصائر الشعوب مستفيدة من أدواتها ومشاريعها الوظيفية الرخيصة كإسرائيل، ويتصاعد التألق السياسي الرسمي الكاذب لرفض التهجير للدرجة التي تشعرك بالاتهام بخيانة وتأثيم من سيهجر دون اعتبار ظروفه الموضوعية!

لا شك بأن كل النوع البشري يرفض فكرة التهجير القسري لأصحاب الأرض، ولاشك بأن الثبات على الأرض -بمعنى الحق وليس الوثن- هو سمة الذين يتصفون بالعزة والإباء.

فهل يمكن أن تحدث الهجرة ويخضع لها الكرماء؟

إن الذي دعاني لطرح هذا السؤال في سياق هذا المقال هو شكل الطرح الأخلاقي والتعامل العربي والإسلامي مع موضوع التهجير القسري والظالم لشعب فلسطين المكلوم، انطلاقا من عقيدة الانتماء لمفهوم الأمة الواحدة، ورفضا للتفكير والتحليل المنطلق من الانتماء الوطني القاصر والقطري المشوه والظالم!

وفيما يستطرد فرعون أمريكا البرتقالي ترامب متحدثا بكبر وعجرفة عن نيته بنقل الفلسطينيين من غزة والضفة إلى مصر والأردن، يتصاعد الحديث الواجب من الطرف الفلسطيني برفض التخلي عن الأرض -وهو حق-، وتتصاعد الدعوات والتنظيرات المحيطة بفلسطين بالحديث عن جريمة التهجير -وهي حقا جريمة كبرى- للدرجة والشكل الذي يرسم من الآن صورة الفلسطيني المهجر الخائن والمستحق للقتل!

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو:

لماذا يتم التعامل مع هجرة الفلسطينيين من حيث البعد الأخلاقي والبعد السياسي بشكل مختلف عن الهجرة والتهجير الذي حصل مع غيرهم من الشعوب العربية، لاسيما في العقدين الأخيرين؟

لقد هاجر كثير من العراقيين بعد سقوط بغداد عام 2003، حيث توزعوا بين الأردن وسوريا ولبنان وأوروبا وغيرها.

كما هاجر ملايين من السوريين بعدما اجتمع عليهم النظام الأسدي والنظام الإيراني الطائفيين والقوات الروسية المجرمة، فهاجر كثير من أهل حلب بعد سقوطها عام 2016، كما هاجر كثير من أهالي غوطة دمشق وجنوبها عام 2018.

ومؤخرا فقد هاجر ملايين من أبناء السودان المكلوم داخليا وخارجيا لمصر عام 2023 جراء العدوان الداخلي على يد قوات الدعم السريع المدعوم علنا من دولة الإمارات ومن خلفها من القوى الدولية وإسرائيل، ومن قبل السودان فقد هاجر ملايين من اليمنيين داخل اليمن بسبب الانقلاب الحوثي وسيطرته على صنعاء عام 2014.

إن القاسم المشترك بين كل تلك الهجرات يتمثل في عنصرين،

أولهما حالة الاعتداء المفرط واختلال الموازين لصالح الخصوم،

وثانيهما بحث النوع البشري عن كل سبيل يحفظ حقوقه وآدميته.

الفلسطينيون بين معادلة مكونة من خانتين

فلماذا ينظر إلى كل حالات التهجير القسري العربية بشكل متزن ومعقول مستوعب لواقع الحال، فيما ينظر للحالة الفلسطينية بشكل مختلف حاد وصفري، ليضع الفلسطيني بين معادلة مكونة من خانتين، فإما ثابت وباق على الأرض فهو ذاك النموذج المؤمن، أو مهجر منها فهو ذلك الخائن الذي يستحق القتل – والقتل المقصود هو بشتى أشكاله المعنوية والاجتماعية والسياسية والجسدية؟

لقد تم قتل المهجر الفلسطيني معنويا في مصر حتى مسح، كما تم قتل المهجر الفلسطيني في لبنان اجتماعيا حتى سحق، كما تم قتل الفلسطيني سياسيا في الأردن حتى محق!

إن تذرع البعض بالمشروع الصهيوني هو غش بائن، وإن ما بقي منه من مقولات وخطابات تصوغ العقل العربي هو موروث قومي جاهلي لايزال يتمدد رغم زوال الأنظمة القومية المجرمة!

المشروعان الصهيوني والإيراني

لا فرق بين المشروع الصهيوني القائم على الطائفية اليهودية، والمشروع الإيراني القائم على الطائفية الشيعية، فكلاهما مشاريع معادية للأمة وهويتها الثقافية،

وكلاهما احتل دولا عربية وهجر أهلها بعد أن أعمل فيهم سكين الذبح، وكلا المشروعين يعمل بشكل وظيفي لصالح المشروع الغربي الذي تقوده حاليا أمريكا،

إلا أن إسرائيل جزء من لحم وشحم الغرب أما إيران فهي من خارجه.

إن الخلل الأخلاقي والقيمي في النظر لمسألة تهجير الفلسطينيين ناتج عن غياب تبني المفهوم السياسي للأمة الواحدة من قبل الأنظمة والحركات السياسية القائمة.

أما الخلل في التعامل والسلوك تجاه تهجير الفلسطينيين فهو ناتج عن واقع صنمية الدولة الوطنية القطرية التي هيمنت على العقل العربي والإسلامي وباتت تشكل منطلقه في التصور والعمل والتفكير.

ولعل هذا الخلل الأخلاقي والسلوكي يتوضح في التفريق بالنظر لمسألة التهجير بين الفلسطينيين وغيرهم، رغم أنهم جميعا من ضحاياه!

إن أوضح أشكال الضعف المنهجي لدى حركات التغيير في أمتنا هو في غياب المفهوم السياسي للأمة الواحدة من مشاريعها،

كما أن أعنف أشكال الظلم الواقع على شعوب الأمة من قتل وتهجير هو ناتج عن عدم تجسد هذا المفهوم الحافظ والراعي للأمة.

ومن نكد الدنيا على شعوب منطقتنا العربية والإسلامية أن حركاتها السياسية والدعوية والجهادية تبنت في تفكيرها وتنظريها النظرية السياسية القائمة على مفهوم الدولة الوطنية القطرية المفروضة علينا!

الخلاصة:

إن هنجعية الرئيس الأمريكي (الحشرة البرتقالية ترامب) قد جاوزت الحد، لاسيما عندما يتحدث عن تهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم،

وهو تحد حقيقي أمام الفلسطينيين ستسيل دونه الدماء، مع أن نجاحه الجزئي والمرحلي متوقع،

لاسيما وأن ظروفه الموضوعية باتت واقع غزة والعمل جار على خلقها في مدن الضفة.

غير أن تعامل النظام العربي الرسمي لا يقل ضلالا وجبروتا وتيها عن سلوك ترامب، وذلك رغم موقفه -غير النزيه- الرافض للتهجير!

فإذا كانت هنجعية ترامب بادية في حديثه عن نيته اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم،

فإن ضلال الأنظمة العربية ينطلق من صنمية الدولة الوطنية القطرية التي تعتبر أن من واجب الفلسطينيين أن يموتوا دون أي اعتبار خلف خطوط رسمها سايكس وبيكو لتصنع بدورها صنم الدولة الوطنية والقطرية،

والتي تسهم في قتل الشعوب ولا تنقذ المضطر.

الأنظمة العربية للفلسطينيين بالمرصاد

أما إن تجاوز الفلسطينيون خطوط سايكس وبيكو فإن أرباب الأنظمة العربية سيكونون لهم بالمرصاد، ليذيقوهم ألوانا من العذاب،

ويمارسوا عليهم وعلى ذرياتهم وأجيالهم سياسة الإقصاء والافقار والتهميش الإجتماعي والاخضاع السياسي والترهيب والتنكيل الأمني!

لا يختلف التهجير في ظلمه وآثاره سواء حصل بفعل الصهاينة المعتدين أم الملالي المحتلين،

أم أرباب الدول العربية القطرية المتجبرين، كما لا فرق بين آدمية الفلسطيني التي قد تلجئه ظروفه الموضوعية القاهرة للهجرة،

وآدمية السوري والعراقي والسوداني واليمني والمصري الذي ألجأته ظروفه الموضوعية للهجرة الداخلية في حدود سايكس-بيكو كما في خارجها.

التفريق بين الهجرة والنزوح

أما التفريق بين الهجرة والنزوح في داخل الخطوط والحدود التي رسمها اللعينين سايكس وبيكو،

والنزوح إلى خارج مساحتها المسموحة والمقررة، فهو من أشكال الزيغ والضلال الذي نتج عن مفهوم الدولة الوطنية القطرية،

والتي باتت صنما مقدسا يعبد من دون الله، ويشرع ويقرر مصائر الشعوب.

إن من مصائب هذا الزمان أن حركات الإصلاح والتغيير فيه، قد تبنت المفهوم القطري واستنسخت الولاء الوطني عن الأصنام التي صنعها الغرب،

لتحول دون تجسيد مفهوم الأمة الواحدة سياسيا، وهي في هذا تلتقي مع أنظمة الجور التي أوكل إليها الغرب مهمة رعاية صنم الدول القطرية!

لن تتوقف سياسة القتل والتهجير في شعوب المنطقة من قبل المشاريع الظالمة، ما دامت دولة الأمة غير قائمة،

لاسيما والغرب لا يرى حدودا سياسية تمنعه من تغيير الرسومات الجيوسياسية والواقع الديمغرافي بحسب تقلباته وشذوذ طموحه الاقتصادي والسياسي والعسكري،

لينتقل من نقطة توتر يخمدها هناك إلى نقطة أخرى يشعلها هنا.

ومع تقدم مشاريع التغيير بين الفشل الأصغر والإخفاق الأكبر، فقد بات لزاما إعادة النظر في مرتكزات أعمال التغيير وتصوراته،

لاسيما وأنه بعد مرور مائة عام منذ زوال دولته الجامعة، قد انتهى لنقض غزل تصوراته التي أنطلق منها!

وإذا كان واقع الحال والظروف الموضوعية تحول دون تحقيق الواجب الذي تمليه علينا أحكام الوحي من قرآن وسنة وسيرة نبوية جملة واحدة في المرحلة الحالية،

فإن ما يميز صوابية مشاريع التغيير وصدق روادها هو أن بوصلتها نحو أهدافها الحقيقية تضبط إيقاع أفعالها وتحالفاتها السياسية، وهو معيار القبول والرفض، والمد والجزر.

وإن ما يمكن تحقيقه واقعا عمليا اليوم ولو بشكل متدرج يراعي موازين وظروف الواقع، لا يلزم التنازل عنه على مستوى الإيمان والفكرة والهدف والتصور،

فالدينونة الكاملة والاعتقاد بسلطان الشريعة أصل لا يقبل فيه المرحلية ولا التدرج ولا النقص،

بل إن جوهر المعادلة الإيمانية قائم على استهداف تحقيق ما يؤمن به المرء، حتى وإن زهقت روحه دونه،

وهو معنى الشهادة الحقيقية في الأعمال الرسالية، حتى وإن مات صاحبه على الفراش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights