من نافلة القول أن الدماء الزكية الطاهرة التي سالت أنهارا في أرض الشام منذ سبعة عقود كان عنوانها الأول هو الإسلام، وذلك باعتباره الهوية الثقافية الجامعة لعموم أهل الشام المباركة، وباعتباره مشروع حياة صبغ تلك الأرض وأحكامها وقوانينها ونظم الحكم التي تداولت عليها خلال 14 قرنا.
وبقدر ما يقف المرء إجلالا أمام تلك الدماء الطاهرة وقاماتها المضحية التي نزفت في طريق الدعوة الإسلامية والسعي لأسلمة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بقدر ما يقف المرء مدهوشا أمام الخطاب والخطوات السياسية التي تعقب كل مرحلة ثورية وهبة شعبية!
فلماذا يحصل هذا الاضطراب المذموم بين المشروع المأمول والواقع المعمول؟
المسألة الإسلامية والمعضلة الوطنية!
تقوم فلسفة التصور الإسلامي للحياة والخلق على مفهوم العبادة لله وحده، وهو ما تعبر عنه الآية الكريمة في قوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات:56، الأمر الذي يترجمه المسلم في سلوكه الفردي والجماعي على مستوى العبادات الفردية والجماعية، وعلى مستوى المعاملات الأسرية والمجتمعية، وعلى مستوى التدافع السياسي داخليا في شكل ومضمون الحكم و وتشريعات الدولة، وخارجيا من خلال التصدي للمشاريع المعادية وإقامة التحالفات السياسية بما يخدم هدف الدعوة لهذا الدين، والقيام بواجب عمارة الأرض كما أراده الله الخالق الذي لا خالق سواه.
إن كل تجاربنا الإسلامية وجهود الحركات الإسلامية وجميع الحركات الإصلاحية تنطلق من التصور الإسلامي للحياة والهدف الأساس من الخلق وهو العبودية لله وحده، ولكن غالبها يتعثر في خطابه وخطواته عندما تتحقق له النجاحات والصلاحيات، وعلى وجه الخصوص في الميدان السياسي وأمام مفردة الدولة واستحقاقات السلطة!
ولعل معضلة المفاهيم الوطنية هي أبرز العوائق والأصنام التي تتصدر المشهد اليوم، في مواجهة الفكرة الإسلامية التي تنطلق من نصوص الوحي!
فما هي المقاربة السياسية العملية التي يمكن أن نطرحها في واقع تجاربنا الإسلامية التي تمكنت من الدولة السورية -نسبيا- اليوم؟
الدولة الإسلامية والعقد الوطني الاجتماعي.
إن الوطن والوطنية يصبح صنما عندما يطرح نفسه كمنظومة بديلة عن المنظومة الإسلامية، لاسيما في نظام الحكم الذي يرتبط في النظرية الإسلامية بمرجعية القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية، كما يضبط الدولة والسلطة بأحكام شرعية.
هيمنة سلطان الشريعة على الفرد والمجتمع والدولة.
وبكلمة يمكن القول إن سلطان الشريعة وهيمنتها قائمة على الدولة وضابطة للسلطة ومقيدة للسلطان في النظرية الإسلامية، بخلاف النظرية الوطنية التي لا تقيم اعتبارا ولا تعترف بسلطان الشريعة ولا أحكامها، وتكتفي في أحسن أحوالها باختزال الدين في العبادة الفردية وبعض الطقوس المجتمعية، كما تساوي بين من يعبد الله ومن يعبد غيره سواء أكان المعبود حجرا أم بقرا، كما تمنحه حقا كاملا وأهلية متساوية في تسيير حياة الناس والمجتمع والدولة!
فك الاشتباك بين المنظومة الإسلامية والمفاهيم الوطنية!
إن المقاربة السياسية التي تفك الاشتباك بين الفلسفة والنظرية الإسلامية في الحكم، والمفاهيم الوطنية في التجربة الإسلامية المعاصرة، تكمن في التفريق -وليس التمييز- بين النظرية الإسلامية في الحكم، وبين المفهوم الوطني كعقد اجتماعي وخطاب مجتمعي يجمع أبناء الأرض الواحدة على أرضية الحقوق المتساوية واستحقاقات التعايش المشترك اللازمة.
ويمكن القول:
في ظل الدولة الإسلامية التي تعتبر الدين مرجعيتها المهيمنة، فإن السلطة الحاكمة تكون هي الراعية للعقد الاجتماعي الوطني والضامنة لاستدامة عدله وسويته.
المقاربة المعكوسة في التجارب الإسلامية المضطربة والمعاصرة!
من الملاحظ أن التشوه الذي شاب الأعمال الإسلامية في سياق التدافع السياسي جاء نتيجة انقلاب مفهوم الدولة من وسيلة إلى غاية، الأمر الذي يبرز في السعي للمحافظة عليها مقابل هدر القيم الإسلامية لأجل البقاء في السلطة!
إن المقاربة المعكوسة في التجارب السياسية الإسلامية في القرن السابق والحالي تتجسد في حلول المنظومة الوطنية بدل المنظومة الإسلامية في الحكم، فيما يختزل المشروع الإسلامي في الخطاب المجتمعي!
والسؤال يقول:
لماذا تنطلق الحركات الإسلامية من مقاربة سياسية سليمة، ثم عندما تصل إلى الحكم ينقلب روادها عليها؟
الصراع بين الحق ومنطق القوة!
إن التراجع وحالة الجزر المشهود الذي يدب في الحركات الإسلامية ما إن وصلت للسلطة ليس ناتجا بالضرورة عن نوايا سيئة، بقدر ما هو ناتج عن ضعف في العقل والقلب أمام منطق القوة الذي يفرض نفسه بأسلوبي الترغيب والترهيب من قبل المشاريع والدول المعادية، وهو ما يفسر اختلال التصور العملي في العقل السياسي الإسلامي، وهو في جوهره غفلة عن مفهوم العبودية كهدف أساس للخلق.
ضعف العبودية لله وليس غياب الحرية هو الإشكالية الجوهرية!
من المآخذ على الأعمال الإسلامية السياسية المعاصرة أنها سقطت في لوثات المفاهيم الغربية، كتناولها غير المتوازن لمصطلح ومفهوم الحرية، وهو تناول أدى لحرف الأعمال الإسلامية ولم يحقق إنقاذا للمجتمعات المدنية!
إن حجم الشقاء الذي تعانيه البشرية اليوم هو بسبب الشرك وغياب أو ضعف العبودية لله وحده، وليس بسبب غياب الحرية النسبية، وإذا كان التفسير الفلسفي الغربي يقوم على تأليه مفهوم الحرية، فإن التصور الإسلامي القرآني يقوم على مفهوم العبودية لله وحده، وهو ما عبر عنه جميع الأنبياء قاطبة في دعوتهم ورسالتهم الأبرز لأقوامهم بقولهم: يا قوم اعبدوا الله.
إن الحرية التي تنشدها الفطرة البشرية السوية، والتي تتحقق معها السعادة الإنسانية، لا تكون بالحرية البهائمية التي تطلق الغرائز الجسدية والعقلية والقلبية، بل إن ما يحقق الانسجام على مستوى الفرد والجماعة البشرية هو العبودية التامة للخالق الواحد، وكما يتحقق الانسجام الكوني بين جميع مكوناته من خلال عبوديته لله وانتظامه بقوانين وسنن ربانية، فإن الإنسان الحر لا يحقق عمران الأرض بالشكل الذي يحفظ كرامة الإنسان إلا من خلال تجسيد مفهوم العبودية لله وحده، الأمر الذي يحرره من كل ما سوى الله سبحانه.
وفي ظل التدافع نحو الحكم والسلطان، ومع غياب أو ضعف مفهوم العبودية لله، تصبح الدولة هدفا وغاية وليست وسيلة!
وبكلمة يمكن القول إن تسويغ التراجع عن التصور الإسلامي للحكم، واستبدال المقاربة الوطنية العليلة بالمقاربة الإسلامية القويمة، هو نتيجة اختلال ميزان النظر بسبب ضعف الإيمان بالحق الشرعي أمام سطوة منطق القوة المادية.
والسؤال يقول:
كيف يمكن تجسيد الحقائق والمفاهيم والأحكام الشرعية من خلال مؤسسة الحكم والدولة، في ظل حقيقة سطوة القوة المادية وهيمنة المشاريع المعادية؟
الإيمان حق مطلق ودينونة كاملة لا ينقضها ولا ينقصها منهج التدرج المؤدي إليه.
فرق كبير بين من يبني دولة ويستلم نظام حكم يروم الوصول للأهداف الإسلامية والحق الذي يؤمن به، ولو بشكل متدرج وتراكمي ينطلق من الواجب والممكن ساعيا إليه وباذلا وسع جهده في الوصول إليه بحكمة ومسؤولية ورشد، وبين من يبني دولة على مقياس الأهداف والمفاهيم والتصورات الغربية!
وثيقة المدينة عقد اجتماعي اجتهادي وليست نظام حكم!
إن صياغة الدولة وفق التصور والمفهوم الوطني الذي نشأ في التجربة الغربية، لن يفضي بحال من الأحوال لولادة نقيضه الإسلامي بل سيعدمه، خلافا للعقد الاجتماعي الذي هو وسيلة يمكن صياغتها في جغرافيا الوطن، وهو ما جسدته وثيقة المدينة التي صاغها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب فيها إن يهود بني النضير – وغيرهم ممن يقطنون أرض المدينة- أمة مع المؤمنين، ولم يقل أمة من المؤمنين، وهي وثيقة ماهيتها عقد اجتماعي ينطلق من إحداثيات الواقع الاجتماعي ويجتهد في تأطير مفهوم المواطنة بما يخدم استقرار المشروع الإسلامي ودوام عمرانه في جغرافيا سياسية محددة، وبذلك فإن العبرة بعموم مقاصده لا بخصوص بنوده.
نموذجي أردوغان ومرسي بين المقاربة الإسلامية الراشدة والقاصرة.
وصل مرسي كما أردوغان للحكم والسلطة في ظل دولة علمانية محاطة بقوى دولية معادية، فأين أصاب مرسي وأين أخطأ أردوغان؟
استهدف الرئيس المصري محمد مرسي الوصول إلى تحقيق الدولة الإسلامية الجامعة، الأمر الذي جعله يرفض كل الضغوط الدولية والعروض الإقليمية بتبني النموذج الديمقراطي الغربي، كما أضاف للدستور المصري موادا تجذر مرجعية الشريعة وتضبط أفهامها، وقد انطلق في هذا من مفهوم العبودية لله واعتبار الدولة وسيلة وليست غاية، وقد أصاب رحمه الله وجعله في عليين واصطفاه مع الشهداء.
أما الرئيس التركي أردوغان -حفظه الله وأيده بالهدى- فقد استهدف بناء دولة ديمقراطية وطنية، الأمر الذي نفش المشاريع الوطنية التركية المعادية للإسلام كنظم حياة مجتمعية وقانونية، وفي ظل ضعف مشاريع الإصلاح التركية، فقد تراجع التدين في عموم تركيا، وتفشت أشكال الفساد على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، والتي عكست أشكال الفساد في المنظومة الغربية!
ومع أن الرئيسين مرسي وأردوغان هما أبناء المدرسة الإسلامية وجهودهما محمودة في إطار خدمة الإسلام وقضاياه، إلا أن خيار أردوغان قد جانب الصواب، ورغم فوزه في الانتخابات الرئاسية، إلا أن التجربة الإسلامية التركية لم تنجح ولم تستقر حتى الآن في بناء المشروع الإسلامي المنشود، وذلك رغم كل نجاحها النسبي في بناء دولة وتحقيق حرية ورفاهية للمواطن أعلى!
المشروع الإسلامي في سورية إلى أين يتجه؟
إن عمل العالم والحاكم والجماعة في أرض الشام اليوم هو ما سيحدد وجهة المشروع الإسلامي في سورية، الأمر الذي يستدعي جمع القلوب وتسوية العقول قبل تسوية المناكب والأقدام.
مضر أبو الهيجاء فلسطين-جنين 29/7/2025