قبل 21 عاما وفي ثلاث جلسات متفرقة جلستها مع بعض قادة ومؤسسي المقاومة، بهدف ثنيهم عن المضي قدما والحيلولة دون غرقهم في بحر المشروع الإيراني ذو الأمواج المتلاطمة، ولكنها انتهت جميعا بالفشل أمام صلف الموقف وهشاشة التصور وضعف المسؤولية!
الأهم أنني حذرت من خطوا الطريق واختاروا -طواعية- وشرعنوا العلاقة والحلف بين كيانات المقاومة والقضية الفلسطينية وبين ملالي إيران -قبل مرحلة الضرورة المروجة والمزعومة-، وأخبرتهم بعد شرح مستفيض أن علاقتهم بالمشروع الإيراني ستشق عصا الأمة، وستبتدع فقها أعوجا عليلا، وستسن سنة ضلالية تقتدي بها الحركات والمجاميع الإسلامية في فضاء قضايا السياسة الشرعية، تفضي في نهايتها لمقاربات إسلامية مائعة ومنغولية الشكل قاصرة في التعامل مع قضايا الشأن الإسلامي العام، وهو ما يسبب خسارة للإسلام وضياعا للمسلمين، ويصبحوا بمجملهم فروق حسابات وحطبا في المشاريع الدولية والإقليمية!
ما هي خلفية هشاشة وضعف المقاربات الإسلامية؟
يمكن للعقل المتواضع والمتجرد أن يلحظ كيف أن الغرب استفاد من صواب الحركات الإسلامية كما استفاد من أخطائها، ومرد ذلك لاضطراب وضعف المقاربات الإسلامية السياسية، وعدم شمولية التصورات السياسية التي تشكل أرضية للخيارات العملية والمواقف السياسية، وهو ما يمكن قراءته بوضوح في وقائع مفصلية في التجارب العربية خلال العقود الثلاثة المنصرمة وحتى يومنا هذا، وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن الإشارة إلى:
1/ الموقف العربي والإسلامي من اجتياح صدام حسين للكويت، والموقف من الهجمة الأمريكية على العراق واجتثاث!
2/ الموقف العربي والإسلامي من خطوة الشيخين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في اعلانهما لمشروع اسلامي لمواجهة مشروع الصليبية العالمية، ثم الموقف الإسلامي من ضرب البرجين العالميين بنيويورك، والذي خططت لتدميرهما وكالة الاستخبارات الأمريكية!
3/ الموقف العربي والإسلامي من ثورات الربيع العربي، وذلك في جانبي الرؤية والسلوك العملي، في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية!
4/ الموقف العربي والإسلامي من عملية 7 أكتوبر، وشكل النظرة والتنظير القاصر لها، والأفهام الجزئية والمنقوصة للواقع، والمقاربات السياسية المتناقضة والمضطربة لروادها!
5/ وأخيرا وليس آخرا الموقف العربي والإسلامي من معركة الوحوش والأعداء الملالي الإيرانيين الصفويين الطائفيين وأمريكا الصليبية.. وهو ما سنتحدث عنه في المقال!
فجوة غياب الالتقاء بين الهدى الشرعي والفهم السنني وحقائق الواقع المعتبرة.. النازلة الإيرانية نموذجا!
صدر عن شخصيات إسلامية مغاربية رفيعة، كما صدر عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين موقف مساند لإيران في معركتها مع إسرائيل!
وأعتقد أن الشخصيات السياسية المغاربية التي تنطلق من غيرتها وحبها لفلسطين -وهي في العموم فقيرة في فهم المشروع الإيراني الطائفي، وليس لها موقف شرعي مؤصل تجاه الدين الشيعي، وهذا وحده كاف لئلا يعتبر حكمها في النازلة الإيرانية- كان يجب أن يكون لها موقف متقدم من اتفاقية التطبيع المغربية مع إسرائيل، والتي وقعها بيديه الأخ رئيس الحكومة السابق سعد الدين عثماني، ومررها بالأمس وبررها ببلاهة حتى اليوم الأمير بنكيران -رئيس الحكومة المحتمل والقادم-!
*إن تمرير اتفاقية التطبيع المغربي مع إسرائيل من قبل السياسيين الإسلاميين النافذين في المغرب كاف لإسقاط نزاهتهم وسويتهم السياسية في الموقف الحقيقي وخلفياته تجاه النازلة الإيرانية!
وأما الفقهاء المقاصديون المغاربة فهم حقيقة فقراء في التصور المحيط بالمسألة الشيعية الإيرانية ومشاريعها السياسية -إلا من رحم الله-، ولذلك فإنه لا يؤخذ منهم فتوى ولا دين في تلك المسألة، وذلك لانتفاء كمال فهمم، ولو أن كبيرهم وعميدهم قال لا أعلم لكان قد أصاب في الفتيا، بدل أن يهرف بما لا يعرف!
مقاربة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تجاه النازلة الإيرانية أين أصابت وأين جانبت الصواب؟
ابتداء أعرب عن حبي للشيخ عليّ الصلابي والفقيه الشيخ محمد الددو والدكتور الشيخ فضل الله مراد، وأنظر إليهم بإجلال وتقدير واحترام، وأعتقد أنهم رموز غيورة على الدين ومنحازة بصدق لقضايا الأمة جمعاء، ولا أزكي على الله أحدا.
إن ما صدر عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من نداء موجه للدول العربية والإسلامية وشعوبها للتنديد بالضربة الإسرائيلية لإيران، ودعوته لنبذ الفرقة تجاه النازلة الإيرانية الحالية، ومطالبته لتوحيد الموقف والصف، أقل ما يقال فيه أنه موقف عاطفي عام، لم ينطلق من إدراكه الكنه الحقيقي للمشاريع المعادية ووقائع الزمان والمكان، فخلط حقا بباطل، وكما أصاب في جوانب، فإنه قد جانب الصواب ولم يوفق في جوانب أخرى!
أين أصاب الاتحاد في مذهبه السياسي تجاه النازلة الإيرانية؟
أصاب الاتحاد العالمي وعلمائه الكرام في:
1/ عدائه للمشروع الصهيوني والصليبي، واعتباره لخطورته المتقدمة عن خطورة المشاريع المعادية الأخرى، وتحريض المؤمنين لأجل تحرير أرض فلسطين.
2/ توصيفه الصحيح للمشروع الإيراني الطائفي المعادي للأمة والدين.
3/ إدراكه لأهمية وتأثير ودلالة أرض المعراج فلسطين.
4/ انحيازه لقضايا المسلمين، وإعلائه من شأن الأمة.
5/ توقفه أمام أي مس بعقيدة المسلمين، وحفاظه على نقاء الدين.
أين جانب الصواب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في موقفه تجاه النازلة الإيرانية؟
ابتداء إن حالة السيولة الفكرية المتصلة بمفهومي الحق والباطل تشير إلى تيه لا يتفق مع نصوع الحق وبيانه وافراده وانفراده، وقد أشار الله سبحانه وتعالى للحق بصفة مفردة كما أشار للباطل بصيغة الجمع، وذلك في قوله تعالى: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. الأنعام:1
وسأنطلق من فرضية توفر الإرادة السياسية الحرة والمستقلة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين باعتباره كيانا معنويا، وأقول لقد أخطأ في:
1/ تنديده بضرب إيران في ظل استمرار احتلالها لعواصم عربية، تماما كإسرائيل التي تحتل جزءا من أرض الشام، وهو تنديد أعمى في ظل استمرار اعدامات إيران للعراقيين وتجويعها وتشريدها لليمنيين، وكان الأولى أن يتخذ علماء الاتحاد التوقف موقفا، لاسيما وأن جوهر الصراع بين مشروعين معاديين للأمة والدين محتلين لأراض عربية، هو في معارك نفوذ وليست معارك وجود بالكلية.
2/ دعوته للترفع عن الصراع القائم بين الشعوب العربية المسلمة وبين إيران الشيعية، لصالح توحيد الموقف السياسي تجاه إسرائيل، والحق أن فكرة وحدة الموقف السياسي مع المخالفين فكرة محمودة في العموم، ولكنها مذمومة إن تعامت عن حقائق وموانع، فالشعوب العربية التي أيدت إيران وحزب الله طيلة عقود سابقة لأجل فلسطين، هي اليوم ضحية مشروع قاتل ومغتصب للبلاد، ولم تختر الانتقال من التأييد السابق للامتناع الحالي نتيجة أبعاد طائفية مذهبية، بل نتيجة اعتداء واحتلال واعدامات وتشريد قائم ودائم، فهل اعتذرت عنه إيران في تلك اللحظة المصيرية، أم بقيت مصرة عليه باعتباره مشروعها الحقيقي والعميق، والذي يجاوز في عدائه للأمة جوهر صراعه حول النفوذ مع إسرائيل؟
3/ وقوعه في التفريق المخل بدل التمييز المصيب، فالتمييز واجب بين مشروعين معاديين هما المشروع الإيراني الطائفي والمشروع الإسرائيلي الصهيوني، وذلك لأجل إدراك مخاطرهما وسبل التصدي لها، أما التفريق بين المشروعين فهو نوع من التطفيف وتضليل العقول، حيث يقع في خلل واقعي وأخلاقي حين يفرق بين احتلالين إسرائيلي وإيراني يتسابقان في إيذاء شعوب الأمة واتلاف وتهديد وحدتها الثقافية الذي تميزت به إيران، فتجاوزت فاعلية إسرائيل في التدمير البنيوي للمجتمعات العربية والإسلامية، حتى استحرت بين الشعوب السكين الطائفية فأتلفت العراق واختطفت لبنان وأهلكت سورية وهي ماضية بتدمير اليمن الحزين!
4/ عدم اعتبار مظلومية الشعب الإيراني والواقع القهري الذي يعيشه السني الكردي والفارسي، والشيعي العربي الأحوازي والأذري -منذ حلول الخميني في طهران-، والذي يعاني من الحكام الملالي كما كان يعاني الشعب السوري من جلاده بشار الأسد، فلماذا نسقط قيمة الشعوب، وندعو الناس لمنع سقوط النظام الإيراني تماما كما سقط النظام النصيري المقاوم، والذي شكل ركيزة حقيقية لإيران وحزبها المقاوم في لبنان، وهو شريك كامل في محور المقاومة!
5/ تضليل العباد في موقف إيران الحقيقي، والذي امتطى حركات المقاومة الفلسطينية حتى قضى وطره ووسع نفوذه وروج لدينه، وما أن وقعت الواقعة واشتعلت محارق الطوفان حتى انسل من الميدان وترك أهل غزة يهلكون ويحترقون، فلماذا يعاد ترميم صورة مخادعة تلبس الحق بالباطل وتشير الى أن إيران نصرت غزة ووقفت الى جانبها، وذلك بعد أن تعرت، حتى تقول الشعوب العربية والإسلامية إن إيران نصرت غزة، كما قيل إن حسن نصر غزة!
6/ عدم تحميل إيران مسؤولية الدماء الفلسطينية وتدمير غزة وتركها تموت، وفيما يدعو الاتحاد للوقوف الى جانب إيران في معركتها الحالية، تسابق قيادات حماس الزمن لإيقاف المعركة بأي صورة من الصور!
7/ الجمع النكد بين المتناقضات، حيث يحشد الاتحاد في موقف ومقاله وندائه حجما من الحقائق المرة تصف حجم إجرام إيران وشكل عدائها للدين، ثم يشير إلى نصرتها لغزة ويجعل منها حقيقة، وبعد أن يبني عقلا وقلبا ممتلئا غيظا من إيران يشير إلى وجوب نصرتها بناء على تصور مآلات خرافية ينقضها واقع حالها في زمن قوتها لاسيما دورها الأخير في العشر العجاف!
الخلاصة:
دلالات موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بين التوفيق والتفويت.
✍ إن التوقف هو الموقف الذي أذهب إليه تجاه النازلة الإيرانية، وليس ما ذهب إليه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من التنديد والمساندة لإيران في معادلة صراع الأمة مع الصهاينة، لاسيما أن المشروع الطائفي لا يقل خطرا وأذى على الأمة والدين من المشروع الصهيوني، بل إن إيران الطائفية وإسرائيل العنصرية أداتين متوحشتين من أدوات المشروع الغربي الصليبي، وقد حقق من خلالهما تدميرا متعاظما لمجموع الأمة وهويتها الثقافية.
✍ إن تفكيك إيران المحتمل في حال تدحرج المعركة وانفلات الأمور سينهي حالة العبث الإيراني المستمر في القضية الفلسطينية، كما سيركز ويوحد مجموع الأمة تجاه العدو الصهيوني، بعد أن فرقها وشتت جهودها وأهرق طاقاتها منذ ولوج إيران في فلسطين.
✍ لا شك بأن سنة التدافع سنة ربانية عظيمة لا مبدل لها، وهي سبب في منع فساد الأرض، ومآلاتها إحداث حركة إصلاح ونهضة، وذلك بعد أن يحدث احتدام الصراع بين القوى خلخلة في واقع الدنيا يوجد فرصا حقيقية لمن يملك مشروعا نهضويا وبنية عقلية وقلبية وشعبية تعيد رسم مكانتها وموقعها في التاريخ كما تستحقه ويعبر عن آمالها وتطلعاتها.
✍ إن المقاربة التي يطرحها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين -ومن يلتقي مع هذا التصور من النخب المستقلة- حول وجوب مساندة إيران والوقوف إلى جانبها في معركة صراع النفوذ بينها وبين إسرائيل، وذلك بعد أن أنجزت تفتيت ثورات الربيع العربي واحتلت عواصمه وقتلت ثواره وشردت شعوبه، ثم استثمرت سياسيا بدماء المسلمين في غزة، هي مقاربة هشة تؤكد موت المشروع العربي والإسلامي، كما تؤكد انتهاء صلاحية الحركات الإسلامية الحالية، وفقدان الذهنية القيادية المتصدرة للفاعلية في بناء موقف سليم يعيد ترميم مسار الانعتاق السياسي للأمة كشرط للتحرر والنهضة.
✍ إن فلسفة التصور الإسلامي التي تشكل مرجعية المقاربة السياسية التي يقدمها الاتحاد العالمي ومن يوافقه، تطعن بشكل مباشر في كل ثورات الشعوب العربية ضد أنظمة الجور، كما تنقض غزل كل مسيرة الحركة الإسلامية في مواجهة الطواغيت ومحاولة اقتلاعهم، والتي أهرقت فيها الدماء خلال قرن كامل في مصر والجزائر والشام والعراق وغيرها!
✍ فإذا كان الوقوف مشروعا إلى جانب إيران أداة الغرب الطائفية المجرمة، وذلك لصالح مواجهة المشروع الصهيوني ومنع توسعه، فإن الوقوف إلى جانب طواغيت العرب كالقذافي والسادات وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح وصدام حسين وحتى حافظ الأسد، واجب أخطأته الحركة الإسلامية وفوتته عقول النخب القيادية، لاسيما أن حجم مجموع أذى طواغيت العرب لا يوازي حجم التدمير الذي أحدثه ملالي إيران القتلة، علاوة على أن طواغيت العرب كانوا عصيين أمام توسع النفوذ الصهيوني لأسباب مختلفة وعديدة، ولكنهم بالمجمل -وإن تعاملوا مع إسرائيل سرا وعلنا- كانوا خاضعين لتوافق عربي إسلامي يحول دون التوسع الإسرائيلي في المنطقة!
✍ إن تشريع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الوقوف إلى جانب إيران في معركتها حول النفوذ مع إسرائيل، يشكك في سلامة المسار الإسلامي برمته، ويطعن في سوية قياداته وشرعية تضحيات دعاته وشبابه، الذين بددوا طاقاتهم ودمائهم في مقارعة طواغيت العرب، من الذين كانوا يشكلون شوكة أو سدا أو عرقلة لمشروع توسع النفوذ الصهيوني في المنطقة!
✍ إن المقاربة السياسية الهشة التي يطرحها الاتحاد العالمي تجمع بين متناقضين صارخين هما، وعي حجم مخاطر المشروع الإيراني من خلال استحضار كل ماضيه وحاضره الإجرامي الذي نال ولا يزال من الأمة وأذهب عافيتها وأفشل وحدتها، ثم وجوب الوقوف الى جانب إيران ومساندتها في معركة نفوذها مقابل إسرائيل، وهو بالجملة تيه يعبر صراحة عن فقدان مشروع الأمة، وحاله كالطبيب الذي أدرك أن جزءا من جسد المريض مصاب بالسرطان القاتل الذي يتوسع وينهش الجسد كل يوم، وبدل أن يشير إلى ضرورة استئصاله ليتعافى باقي الجسد، فإنه يبقيه ويحافظ عليه لاعتبارات اجتهادية خارجية مرجوحة!
✍ إذا اتفقنا بأن الصراع القائم بين إيران وإسرائيل هو صراع نفوذ، فإن بقاء إيران المعادية لشعوب الأمة -كما إسرائيل- قوية لا يعني التصدي للمشروع الصهيوني ومنع توسعه، بل التكامل معه في الاجهاز على دول وشعوب المنطقة، وشرطه صياغة تفاهم جديد برعاية أمريكية، وهو ما تجسد في العراق المنكوب من خلال تعامل وتكامل إيراني صهيوني برعاية أمريكية معلنة.
✍ لا خيار أمام الأمة لتحقيق نهضتها ومواجهتها للمشروع الصهيوصليبي إلا من خلال بعث عربي إسلامي جديد يخرج من المسار الملوث في حلفه مع إيران الطائفية أو ارتهانه للأنظمة العربية الطاغوتية، واعتماده بعد الله على حقيقة الأمة الحاضرة والواعدة.
مضر أبو الهيجاء جنين-فلسطين 16/6/2025