من نافلة القول إن معاركنا ضد المحتلين مشروعة، وأن بطولاتنا مشهودة، وأن واجب الجهاد في حقنا عيني حتى يزول الاحتلال، وأن وعد الله بتحرير الأقصى حق، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.
لكن التقديرات السياسية القاصرة، والاجتهادات القتالية الخاطئة سبب كاف لإتلاف المكونات الجهادية وخاماتها البشرية،
أخطاء تكفي لسحق القضية مهما توفر لها من مشروعية وقدسية، وهو أمر وخيار منوط بقياداتها النافذة،
وأما الاستفراد بالرأي في حدود قيادة تنظيم بعينه يحتكر نقاش قضايا الشأن العام ويقرر مصير شعوب الأمة، فهو من أهم أسباب خسارة الحاضنة!
الإجهاز على الكوادر الجهادية
لقد ابتلع الرد الأمريكي الإسرائيلي -على عملية 7 أكتوبر- القيادات الفلسطينية ودفن نخبها العلمية والدعوية، وأجهز على كوادرها الجهادية،
كما فتت ترسانتها العسكرية، ويكاد يبتلع القضية، وذلك بعد أن دفن الحاضر الغزي ويهدد مستقبل القدس والضفة، ممعنا في إتلاف وتمزيق المكونات المجتمعية!
لم يحصل هذا لأن الجهاد مشروع، ولا لأن شعب فلسطين المجاهد قام بالقتال والتصدي الواجب،
لاسيما وهو يمارسه منذ حلول الإنجليز ثم الصهاينة قبل قرن مضى!
إن مثلث برمودا الذي ابتلع غزة وأغرق القضية الفلسطينية هو الحلف السياسي الخاطئ والتعويل العسكري الواهم -الذي كان قائما ولا يزال- على إيران ومحورها المقاوم،
وهو إثم دفعت إليه الأنظمة العربية الرئيسية المتواطئة، وأرادته الإدارة الأمريكية الواعية،
وتشربته العقول الفلسطينية والعربية المشوهة والقاصرة.
لاشك بأن فلسطين اليوم تعيش أزمة تاريخية نوعية بنيوية لم تشهدها منذ النكبة، وهي تتطلع نحو شعوب الأمة من ثقب الجدار الذي بقي أمامها كمتنفس وحيد، وذلك بعد أن وقع سقف البناء وانهارت جدرانه عليها،
وهي تمد يدها نحو شعوب أمتها مستنجدة بهم من ظلام وجوع وتيه وقهر وموت كبير لا يزال يتوعدها بالمزيد،
وَهي إذ تفعل ذلك اليوم فلأنها أدركت في واقع الحال ما لم تدركه في المقال،
وشهدت بأم عينها خسران خيارها السياسي وغدر حليفها الإيراني ولي الفقيه ومحوره اللعين،
وخطأ اجتهادها وافتئاتها الذي تجاوز نصح العلماء الربانيين في محطات ومنعرجات مؤثرة ومقررة!
حلف المشروع الإيراني
لقد أراد المجاهدون شيئا وقدر الله سبحانه أمرا آخرا، فلو كان للمقاومين ما أرادوه وحققوا النصر بحلفهم مع المشروع الإيراني،
ودخل حسن نصر الله والخامنئي إلى غزة فاتحين وبسباباتهم للأقصى مشيرين لتشيع نصف أهل الأرض،
ولشك النصف الآخر بسنن الله وانحرفوا عن صراطه المستقيم.
إن غزة والقدس والضفة وكل ما يحصل في فلسطين اليوم ليس بخارج عن قدر الله وتدبيره سبحانه، فهو مدبر هذا الكون بتفاصيله ودقائقه الصغيرة،
والله سبحانه لا يقبل أن يحرر أقصاه إلا بأيد وقلوب خالصة لوجهه، وليس فيها من يسب دينه ويلعن نبيه وصحابته ويشتم أم المؤمنين،
ويحرق الموحدين ويغتصب نساء المسلمين ويحتل أرضهم ويعيث هرجا ومرجا في بلادهم !
ورغم قسوة الظروف الاستثنائية التي تمر بها غزة وعموم فلسطين، إلا أننا كمسلمين بنصر الله ووعده واثقين ومتيقنين وعلى طريقه بإذن الله سائرين ومكملين.
إن من نكد الدنيا علينا في فلسطين هو أن الثورة الشامية والعراقية فضحت وعرت المشروع الإيراني وهي تقاتله،
بينما الثورة الفلسطينية قد فضحت وعرت المشروع الإيراني وأذرعه وهي تحالفه!
فهل يعيد ثوار فلسطين بناء تصورهم الأصيل لمشروع التحرير، ويخرجوا من المفاهيم والتصورات القطرية إلى فضاء الأمة،
دون أن يخلطوا بين شعوب أمتهم الحاضنة والطوائف ذات المشاريع المعادية والمتخادمة مع عدوهم اللئيم؟
إعادة تصور مشروع التحرر
وهل يعيد ثوار الشام والعراق ومصر بناء تصورهم لمشروع التحرر دون استبعاد واجب تحرير فلسطين من أجندة مشاريعهم القائمة، ويعبروا عن ذلك ببناء الجسور الواجبة نحوها؟
وكما عرت المعارك الجهادية في غزة وفلسطين المشروع الإيراني المعادي،
وفضحت حجم التواطؤ العربي الرسمي، فقد كشفت عن ضعف مريع لدى الشعوب العربية والإسلامية وجماعاتها الدعوية والحركية والسياسية،
الأمر الذي لا يعكس ضعف الإنتماء ولا خفوت العواطف الحقيقية، بل يعكس غياب البناء،
رغم سنوات ثورية مرت فيها شعوب المنطقة العربية! وهذا موطن لسؤال معقد واتهام كبير!
اليقين عندنا أنه لو هلك جميع أهل فلسطين -لا سمح الله – فإن أهل مصر والعراق واليمن والشام وليبيا والسودان والمغرب وموريتانيا والجزائر وتونس ودول الخليج والبوسنة والشيشان والباكستان والأفغان لن يتركوا جزءا من عقيدتهم، هو الأقصى، وحيدا يمد إليهم يديه ويستنجد بهم -بعد الله- وهو يعيش في ضيق شديد وحال فظيع.