مضر أبو الهيجاء يكتب: فلسطين تعيش واقع هزيمة وليست نصرا مؤزرا!
الانتقال الواجب من عقل الزبيبة إلى الرأس

لم تكن مشكلة الأعمال الإسلامية في يوم من الأيام أن رؤوس قياداتها كالزبيبة، ولكن مصيبة بعض قياداتها النافذة والمقررة أن عقولها كالزبيبة، الأمر الذي يرتد على قضايا المسلمين وشعوبهم بالخسران!
إن نموذج غزة الموجع لم يوقظ الضمير الإنساني، حيث تستمر المعاناة وتستفحل لدرجة الإبادة الجماعية بقرار من الإدارة الأمريكية وتنفيذ من ذراعها النافذ في المنطقة إسرائيل الزائلة، وذلك في سياق ضعف غير مسبوق لدى شعوب العالم.
في ظل تلك الصورة القاتمة تصر بعض العقول العاطفية على وصف ما يجري في غزة وفلسطين بالنصر المؤزر، وهذا لعمري خلل كبيرة، ومآلاته خطرة، حيث تعيد صياغة الخطاب بشكل خاطئ، وتمنع الفعل من الذهاب نحو ايقاع جديد يعيد تصويب المسار ويقلل شرور المرحلة.
إن إصرار بعض القيادات والدعاة على خطاب النصر يشير إلى هشاشة في النظر وغياب للمراجعة، وهي علة سائدة في عموم أعمال التغيير والتحرير خلال القرن الفائت والحالي، وذلك في عموم الطرح القومي العربي والإسلامي!
يمكن الإشارة إلى عدة أسباب تشكل خلفية تجسيد (عقل الزبيبة) في كثير من أعمال التغيير والتحرير المعاصرة:
1/ العصبية، سواء ارتبطت بالجغرافيا المكانية أو الجغرافيا الحزبية والتنظيمية.
2/ التماهي مع الفكرة المجردة دون توازن في النظر بين الحق والحقائق الشرعية من جهة، والحق والحقائق الواقعية من جهة أخرى، الأمر الذي يكرس الإخلال بمعادلة الالتقاء الواجب بين عالمي الغيب والشهادة.
3/ الارتباط المباشر وغير المباشر بالأنظمة التي لها أجنداتها الخاصة والمعزولة عن مصلحة الأمة، حيث يمكن أن تتدخل لتدير أو توجه المشاريع العاملة في مساحات الصراع لصالح رؤيتها أو رؤية مشغليها الكبار، دون أي اكتراث بالدماء ومصائر العباد وآهات الأمهات وتردي البلاد.
إن الإشارة لسبب المصائب في قوله تعالى (قل هو من عند أنفسكم) ليست محصورة في جانب النوايا والعبادات، بل هي كذلك أيضا في جانب العقل والنظر والسلوك المتدبر، ولعل أهم ما يعزز تلك النظرة هي قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، حيث لا يلدغ إلا ضعيف العقل والنظر والتفكر والتدبر.
حلول العقل الوعظي محل العقل المتدبر والمدير!
إن عموم الخطاب الوعظي في شأن النازلة الغزية ومعركة الطوفان يتحدث عن النتائج القريبة والمتوسطة والبعيدة، وذلك من باب تخفيف آلام الشعوب، ورفدها بالأمل المعقود على الله سبحانه وتعالى.
ولكن عندما يصبح العقل الوعظي هو السائد والمتبنى من قبل القيادات المديرة لأعمال التغيير، فإن هذا الطرح يصبح منهجا آثما مضللا يمارس التخدير الحرام لشعوب الأمة، ويجعل من الدماء جسرا للمشاريع المعادية، كما يسوغ للحركات أن تصبح مطية للمشاريع الخبيثة!
مثال مع الفارق:
عندما ينصلح حال أحدهم بسبب موت ابنه، الذي عصى والديه وذهب في طريق خاطئ فقتل أو مات، فإن من خيانة العقل والفهم والسلوك أن يتم الحديث عن تلك الواقعة بمدح سلوك الابن الذي عصى والديه فمات، حتى وإن كان موته سببا في هدايتهم، بينما الواجب والأصل هو تعرية خطأ هذا الابن وإدانة سلوكه ونهي الناس عنه، ويمكن الإشارة للفرع وهو هداية والديه وذلك بإرجاع الأمر لله وحمده والثناء عليه، لاسيما وأن نفس الحادث والسلوك يمكن أن يكون سببا في كفر الوالدين.
غزة والقضية الفلسطينية والمسألة السورية!
في الوقت الذي تراجعت فيه القضية الفلسطينية إلى درجة التلف الكبير، والذي بات سرطانا يأكل لحمها وعظمها وعقلها العميق، وذلك بسبب خيار ياسر عرفات قبول اتفاقية أوسلو مع الإسرائيليين.. الخ
وفي الوقت الذي نحر فيه الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وبات رهينة وأسيرا في القدس، وتم تقزيمه وتجريمه في أراضي 48، وذلك بسبب قرار عملية 7 أكتوبر ومعركة الطوفان، والتي جاءت كنتيجة طبيعية لارتباط قيادة حماس الثانية والثالثة بالمشروع الإيراني الممتطي زورا لمسألة المقاومة.. الخ
وفي الوقت الذي بات فيه سقف الثوار السوريين متدنيا يرجو الخلاص من الضربات الخارجية، ويسترضي الأطراف الدولية والداخلية، وذلك بعد أن قدم مليوني شهيد وكان سقفه إقامة دولة حرة منعتقة سياسيا من الاستبداد الداخلي والخارجي.. الخ
إن جريمة التوصيف المضلل في هذا الوقت والزمن الصعب الذي نعيش فيه حالة تراجع وهزيمة وتفكك – حيث أصبح منهج رام الله أن تحفظ المسألة الفلسطينية من خلال التنسيق الأمني والاستخذاء أمام المحتل الغاشم، كما أصبحت أكبر أهداف قيادة المقاومة في غزة أن يقبل الخصم بإيقاف المعركة التي قررتها هي بنفسها، وأصبح حلمها البعيد العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، كما أصبح سقف ثوار سوريا المضحين أن يقبل بهم الغرب، وأمريكا التي سلحت بشار الأسد ومكنته من رقاب الثوار- أن العقل الوعظي لا يزال يصف الواقع القائم بالنصر المؤزر!
الخلاصة:
إن مأساة الأعمال الإسلامية تكمن في خطابها القاصر الذي شكل عقول قياداتها المتنفذة والتي تملك صلاحيات مقررة.
ولعل أهم جوانب الاضطراب العقلي الحاصل يتجسد في وجود هوة بين الهدى والفهم، حيث تجد كثيرا من الشخصيات تتميز بالهدى المرتبط بعالم الغيب والعبادات وحفظ النصوص وتلقينها، فيما يغيب عنها فهم الواقع الموضوعي والتعامل معه بنفس الدقة والمسؤولية تجاه النص الشرعي، وعلى العكس فإنك تجد بعض القيادات الواعية بالواقع واليقظة تجاه مستجداته، ولكن يغيب عنها الهدى الشرعي والتقى الرباني!
لا يمكن للأعمال الإسلامية أن تقطف نتائج سليمة توازي التضحيات القائمة دون أن تجمع بين ركني القوامة في حمل أمانة الرسالة والقيام بواجب حفظ الدين ورعاية مصالح العباد، وهما الهدى الشرعي -من خلال فهم النص القرآني والحديثي والسيرة-، والفهم الواقعي – من خلال النظر والوعي والتدبر والاعتبار-، وكلا الركنين جزء من الدين وسبب في الاستقامة على الصراط المؤدي لتحقيق الغاية والمعبر عن حمل أمانة الرسالة.
إن أي إخلال بأحد أركان معادلة حمل الأمانة، سيحمل الناس على ما لا يحمد عقباه ويذهب بهم إلى الهاوية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن الإشارة إلى عملية 7 أكتوبر ومعركة الطوفان التي أطلقتها القيادة الفلسطينية الإسلامية المقاومة لأجل تحرير فلسطين وتبييض السجون واسترداد الأقصى لحضن المسلمين، ولم تلبث ثلاثة أسابيع حتى صار أبرز أهدافها إيقاف المعركة التي أطلقتها بقرار من قياداتها المتفردة!
يمكن الإشارة هنا بوضوح إلى الانفصال الذي وقع بين الهدى والنص الشرعي الذي يوجب الجهاد ومواجهة الاحتلال من جهة، وبين فهم الواقع الموضوعي على حقيقته من جهة أخرى، والذي ظهر عواره عندما ارتبطت المقاومة الإسلامية بالمشروع الإيراني وراهنت عليه، وعندما توهمت إمكانية التحرير لفلسطين دون دور الأمة الرئيس والإعداد الواجب له على النحو الصحيح، وعندما غفلت عن المشروع الأمريكي الذي يريد إعادة ترتيب أوضاع المنطقة من خلال الثغرات الساخنة والساحات المهددة والمتوترة!
هذا دون النظر العميق أمام سلامة وشمولية الفهم الشرعي الذي يرسم معالم الهداية.
وكما حصل هذا في داخل فلسطين فقد تكرر نفس الأمر خارجها، ولكن على ألسنة بعض الروابط العلمائية التي دعت الشعب الأردني للنفير نحو فلسطين، فاستجاب بعض المخلصين، وفورا وقعوا في فخ السلطة وحوكموا، وتم بنفس الوقت تجريم وحظر حركة الإخوان المسلمين، وكما تبرأت قيادة الإخوان في الأردن من جنودها المضحين دون تردد، فقد سلمت حركة حماس -بعدها بقليل- من أطلق الصواريخ من لبنان على إسرائيل، حيث سلمتهم للدولة اللبنانية في مخيم عين الحلوة!
أعود فأقول إن الجهاد مشروع وهو ذروة سنام الإسلام، وهو أحد عناوين الحركات الإسلامية التي تربي أتباعها عليها، فلماذا إذن تبرأت منهم، ولماذا أسلمت جنودها المضحين بعد أن حرضتهم ووصفت شعوب الأمة بالمتخاذلين؟
الجواب لا يشير إلى نوايا القائمين، ولا يشكك في مشروعية ووجوب جهاد المحتلين، ولكنه يشير إلى إشكالية القصور والاضطراب العقلي القائم عند قيادات العمل الإسلامي، حيث نجد أن هناك انفصالا قائما بين وعي الهدى المرتبط بالقرآن والسنة والسيرة، وبين فهم الواقع الموضوعي والتعامل مع توازناته وفق سنن التغيير! وهو ما لم يظهر في تاريخ الصحابة الكرام رغم التحديات العظيمة التي أعقبت وفاة النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
فكيف جمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهدى المرتبط بالنص والرشد المرتبط بالواقع؟
إن الصحابة الكرام الأوائل هم الامتداد المباشر لمدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وعوا أمر الله سبحانه وتعالى لنبيه بوجوب التشاور معهم رغم أنه يوحى إليه وهو متصل بالسماء عبر جبريل، خلافا لحالهم، فما الشيء الذي أضافوه للنبي القائد؟
لابد من التوقف أمام القيمة العلمية والمادية العملية التي سيجنيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من امتثاله لأمر الله بالتشاور مع أصحابه -رغم اتصاله بالوحي وعلاقته بالغيب باعتباره الركن الأول-، وهي حقيقة بارزة تشير إلى عالم الشهادة وما يتصل بالركن الثاني الواجب في فهم وفقه الواقع، والذي بدونه لن يتحقق مقصود الشارع بعبادة الله وعمارة الأرض كما أراد الخالق، حتى لو امتلأ القائمون على أمر الناس وقضايا الشأن العام بجوانب الهدى المرتبط بالنصوص والغيوب، وإذا كان اتصال النبي صلى الله عليه وسلم كاملا بالوحي والنص وعالم الغيب، فإن اتصال الصحابة كان قائما تجاه عالم الشهادة والواقع وتوازناته وتفاصيله الدقيقة والمؤثرة في الخطة والخطوة التي سيقررها النبي القائد.
ختاما يمكن القول إن شباب الحركات الإسلامية هم ضحايا قرارات قياداتها القاصرة، وأما القيادات فهم ضحايا خطاب إسلامي قاصر يجب تقويمه بشكل عاجل.