لقد امتلك أهل الشام حريتهم في مناحي عديدة نتيجة لجهاد طويل ومقارعة مريرة مع النظام الطائفي المتوحش، والذي لا شبيه لتوحشه فيما روي عن البشر.
لكن هذه الحرية مع كل جمالها وروعتها لا تفضي تلقائيا لامتلاك القرار السياسي الحر، وذلك في عالم يسيطر عليه كبار وحوش الأرض، من الذين يستخدمون الأنظمة والمشاريع كأدوات تنفذ أوامرهم وتجسد تصوراتهم في الاعتداء على مقدرات الشعوب.
وإذا كانت الحرية المدنية والاجتماعية تحتاج إلى معركة مع الأنظمة الطاغوتية، فإن الحرية السياسية وامتلاك القرار يحتاج لمعارك طويلة وعميقة مع طواغيت الغرب.
لسنا هنا بصدد اعلان حرب ولا تسعيرها بين شعب متهالك خرج لتوه من قسوة النظام الطائفي وبين دول الغرب، ولكننا بصدد فهم عميق وواسع يفضي للخروج من الأوهام، كما يقود الى توازن في الطرح واستكمال للبناء وفق خطة وخطوات واعية.
إن امتلاك القرار السياسي الحر، حلم مشروع وعمل واجب عند الثائر،
وهو يستوجب توفر عدة شروط لتحقيقه، هي:
1/ امتلاك الإرادة السياسية الحرة من حيث القناعة والأصل.
2/ فهم المكونات والمشاريع السياسية، والاطلاع على وسائلها وأدواتها الناعمة والخشنة، والاحاطة بعلاقاتها وتشابكاتها، وفرز مواطن قوتها وضعفها.
3/ العمل السياسي الدؤوب والمثابر على افتكاك حرية القرار السياسي، وذلك بأشكاله الناعمة -ومنها التحالفات- والخشنة عند استحقاقها في محطات مسؤولة وراجحة المآلات.
4/ اطلاق وتمكين الحالة الشعبية والجماهيرية ومنحها صلاحياتها الحقيقية -وليست الوهمية- في التعبير عن خياراتها وتجسيد رؤاها، وتمكينها من صناعة أدواتها الفاعلة في كل اتجاه.
5/ النجاح في الفصل بين معارك السلطات الحاكمة، وبين مقومات البنية الأهلية الاجتماعية ومؤسساتها، وذلك بهدف حماية المقدرات التراكمية المجتمعية، فإن ضعفت أو هلكت الأولى فلا تهلك بالضرورة الثانية.
وفي نظرة سريعة للمشهد السوري بعد ثورة الشام المباركة يمكن القول أن ما تحقق فضل من الله عظيم، لم يكن يتصوره منا أحد، وهو استحقاق لدماء الشهداء الأبرار، واستحقاق لثبات العلماء والدعاة والقيادات في موقفهم تجاه كل أشكال الظلم، واستقامتهم على الصراط.
حرية نسبية للشعب السوري
لقد تحققت الحرية النسبية للشعب السوري وثواره الأحرار، ولا يزال أمامهم مشوار طويل وشائك ليمتلكوا القرار السياسي الحر، رغم توفر الارادة السياسية المستقلة، وذلك في ظل ما تشهده منطقتنا من استعلاء اسرائيلي وحلول أمريكي، وما يشهده العالم من غطرسة القوة الواحدة.
لاشك بأن سرعة تحرير المدن السورية وسرعة فرار طاغوت الشام تحققت بفضل الله أولا ونتيجة لعناصر ذاتية تمثلت في الجاهزية والاعداد الثوري وأحقية مطالب الشعب السوري، وعناصر موضوعية أبرزها اهتراء النظام الطائفي ومنظومته العسكرية والأمنية من جهة، ومن جهة أخرى التقاء المصالح الثورية برؤية وإرادة المشاريع الدولية.
ودون القفز عن تلك الحقيقة يمكن القول بصراحة ووضوح إن الاشكالية لا تكمن في التقاء الإرادتين الثورية المحمودة والدولية المغرضة، ولكنها تكمن في التماهي المحتمل، الأمر الذي يوجب التوقف والتدبر والتناصح.
وحتى نحمي ثورتنا من الاستخدام فيما يتعارض مع أهدافنا المشروعة، لابد أن نبرز إرادتنا السياسية المستقلة، ونبذل جهدنا الثوري في تحقيق امتلاك قرارنا السياسي المستقل، والذي يحتاج لوحده معارك ثورية سياسية من نوع وايقاع مختلف.
وفي سياق هذا الفهم للتحديات القائمة والمخاطر القادمة، كنت أتمنى أن يتجاوب مع دعوتي الأخ أحمد الشرع ويقدم أكبر خدمة لثورة وحاضر ومستقبل السوريين بخروجه من عالم السياسة -على الأقل في مرحلة ولادة المكون السياسي الثوري الأول-، بحيث يكون مكونا سياسيا جمعيا غير فردي ولا هو حزبي، يعكس الارادة الشعبية الحرة التي تقويه وتحميه.
الغزل الأمريكي الفرنسي ثم البريطاني
إن تكرار الغزل الأمريكي الفرنسي ثم البريطاني لهيئة تحرير الشام والجولاني أمر يستحق التوقف والتفكر، وأقله يقود لوجوب خروج الهيئة والجولاني من المشهد السياسي والعسكري، فهل يمكن تحقيق هذا وكيف؟
نعم يمكن للجولاني أن يخرج من المشهد السياسي عند توفر نية صادقة مبنية على وعي دهاء وخبث الغرب في اللعب على قضية الإرهاب وصناعتها مدا وجزرا، ويمكن للشرع أن يكون عونا للاستجابة لنداء الثورة وتشكيل اطار جامع معبر عن فسيفساء الثورة والشعب السوري الحر.
أما عن هيئة تحرير الشام فقد أدت دورها على نحو فاعل إلى جانب أخواتها من الكيانات الجهادية، وقد انتهى هذا الدور الطليعي بفتح دمشق، فيما يجب أن يتشكل من مجموعها -إضافة للسوريين الأحرار- جيش وجهاز أمني جديد لا يحمل صبغة تشكل ثغرة، أو ارتباطات وقنوات سابقة قد ينفد منها الغرب.
وخلاصة القول إن التقاء إرادتي الثوار والمنظومة الدولية قد أسهما في سقوط الطاغية والنصر الابتدائي، ولكن مقصد التمكين لن يتحقق الا بفعل ذاتي يمتلك إرادة حرة وتصورا ناضجا.