
بدأت حركة الإخوان المسلمين عملها في فلسطين في خمسينيات القرن المنصرم، كامتداد لنهج الإمام حسن البنا في الدعوة والإصلاح، ثم أنشأت ذراعها العسكري وأطلقت عليه اسم حركة المقاومة الإسلامية حماس، وذلك بعد أربعة عقود من عملها في الدعوة والإصلاح، لتنتقل من ميدان الدعوة والإصلاح الى ميدان القتال وجهاد المحتلين، ولم يمض عقدين على جهادها حتى ولجت الى عالم السياسة فشاركت في الانتخابات التشريعية على أرضية اتفاق أوسلو، والذي اعترفت به في واقع الحال وأنكرته في المقال!
من نافلة القول إن هذا الدين العظيم لم ينزل الا ليصوغ حياة البشر في كل الجوانب، الأمر الذي يوجب العمل الإسلامي في ميدان الدعوة -وهو الأصل- وميدان القتال والجهاد – وهو أحد وسائل التغيير المرتبط بالمآلات والعواقب مدا وجزرا- وميدان السياسة -وهو تجسيد للوحي في واقع الناس وحياتهم-.
لم تكن الإشكالية في مبدأ الدعوة لهذا الدين، والذي أبدع فيه الإمام الشهيد حسن البنا، كما أبو الأعلى المودودي، ومن قبلهما محمد رشيد رضا، كما لم تكن الإشكالية في ميدان الجهاد الذي جعلته الشريعة وسيلة لاقتلاع المحتل، ووسيلة لهدم الظلم والاستبداد الذي يصادر حرية الفرد والمجتمع ويحول دون حقهم في الاستماع لرسالة السماء الهادية، كما لا تكمن الإشكالية في ميدان مقارعة السياسة الواجبة لتمكين الخير وإزالة الشر ونصرة المظلوم وإقامة العدل.. فأين إذن تكمن الإشكالية التي حرفت حركة حماس وأخرجتها عن الصراط؟
من المؤكد أن التيار الإسلامي الفلسطيني بدأ طريقه ليقوم الخلل والإنحراف الذي اجترحه التيار الوطني، ولكنه ما لبث أن خرج عن السوية وانحرف، وذلك بعدما سقط في آثامه وكبائره الثلاثة، والتي ارتبط بعضها ببعض كسبب ومسبب، وكخيار واستحقاق ونتيجة!
إن التصور والتفكير المنهجي العليل في عقل حركة حماس هو السبب المباشر في هذا الإنحراف، وذلك حين استهدفت الحركة وقياداتها المتوسطة والأخيرة السعي لإقامة الدولة الفلسطينية المستحيلة، الأمر الذي أخرجها من مشروع الجهاد والتحرير ومواجهة المشروع الصهيوني، الى مشروع تحصيل السلطة على طريق استهداف الدولة المستحيلة، وهو ما أعاد رسم ايقاعها وبدل ضوابط تصرفاتها، كما غير منهجها في اتخاذ مواقفها لدرجة النقيض، حيث تم استبدال الهدف الأصيل بهدف دخيل!
نجحت الإدارة الأمريكية بحرق ياسر عرفات وتدمير وتفكيك التيار الوطني الفلسطيني، كما نجحت ببراعة في الإيقاع بحركة حماس في الفخ وأخرجتها عن الصراط المستقيم، وذلك بضربة واحدة سببت تيها للتيارين، عنوانه الكبير إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، الأمر الذي يناقض المنهج السليم، ويحكم عليه واقع الحال بالمستحيل!
فأما من حيث المنهج السليم، فإن السعي الفلسطيني لإقامة دولة مستقلة على جزء من أرض الشام المباركة، هو تجسيد غاية ما سعى إليه الغرب من خلال اتفاق سايكس-بيكو، ولتكون دولة فلسطين جغرافيا سياسية تفصل جناحي الأمة في مصر والشام!
وأما في واقع الحال، فإن إقامة الكيان الصهيوني على 80% من أرض فلسطين، واغتصابه لأجزاء ومساحات كبيرة من مدن الضفة والقدس وغزة، وتحويل ال 20% المتبقية من فلسطين الى جزر تتوسطها المستوطنات السرطانية، والتي تعج بالمستوطنين المدربين كحشد شعبي مواز لجيش الكيان، يجعل فكرة إقامة الدولة الفلسطينية المستحيلة محرقة لشعب فلسطين، وهو ما جسدته معارك كثيرة.
ومن الواجب الإشارة إليه أن حركة حماس انتقلت من اجتراح كبيرة المشاركة في العملية السياسية في ظل المحتل وعلى أرضية الاتفاق الفلسطيني معه، الى اجتراح كبيرة الحلف مع مشروع معاد للأمة وقاتل لشعوبها ومحتل لأرضها، وهو المشروع الإيراني، قرين المشروع الإسرائيلي في تفتيت دول وشعوب الأمة!
لقد روجت قيادات حركة حماس مبرراتها في العلاقة الفولاذية مع ملالي إيران بضرورة دعم المقاومة لأجل تحرير فلسطين واسترداد أقصى المسلمين! وهو محض كذب وخداع وتلبيس للحقائق، حيث تأتي العلاقة والحلف السياسي العميق بين حركة حماس وإيران كاستحقاق كامل لاستهدافها تحصيل السلطة وسعيها لإقامة الدولة الفلسطينية المستحيلة.
ومما يشير لهذا، زمن وظروف اقترابها من إيران وتعاظمه بعد مشاركتها في الانتخابات التشريعية وانفرادها بحكم قطاع غزة.
أما ما يؤكد هذا التصور فهو صلابة علاقة حركة حماس مع إيران واستمرارها بعد خذلان إيران لها في معركة طوفان الأقصى، التي بنيت على فكرة وحدة الساحات الإيرانية المقاومة، فولدت فأرا في طهران.
وكما تسببت الكبيرة الأولى باستهداف إقامة الدولة بكبيره ثانية هي التحالف مع العدو والمحتل الإيراني، فقد تسببت الكبيرة الثانية بكبيرة ثالثة هي الإنقسام الفلسطيني وتقسيم شعب فلسطين وحركاته إلى ملائكة وشياطين، وهو الأمر الذي رعاه المحتل بتمرير انفراد حماس بحكم قطاع غزة!
إن الخلل والانحراف الإسلامي في تجويز العلاقة والحلف والتطبيع مع عدو محتل لبلاد المسلمين وقاتل لشعوبها هو إيران -بشكل يفوق إسرائيل-، لم يتوقف عند عقول قيادات حركة المقاومة الاسلامية حماس، وإنما توسع في عقول قطيع من الكتاب والمفكرين والدعاة الإسلاميين، من الذين لا يرضون عما تقوم به إيران من اعتداءات واحتلالات لبلاد المسلمين وقتل للموحدين، كما لا يقبلون أشكال كفرها وتمزيقها لهوية الأمة الثقافية، ولكنهم وقعوا في نفس الفخ الذي وقعت به حركة حماس وهو استهداف إقامة الدولة الفلسطينية المستحيلة، وهنا يتبين أن الخلل المنهجي غير محصور في حركه حماس وإنما هو عميق في تصور الحركات الإسلامية عموما والعاملة في ساحات شتى، الأمر الذي يرشحها للوقوع في الفخ واجتراح الكبائر التي اقترفتها قيادات حركة حماس باجتهاداتها الخاطئة المبنية على تصور منهجي قاصر وعليل.
وبكلمة يمكن القول إن أس الانحراف الذي أخرج حركة حماس عن الصراط المستقيم، يكمن في خلل منهجي لاستهدافها تحصيل السلطة وإقامة دولة فلسطينية مستحيلة على جغرافيا فلسطين، وهو دافعها الحقيقي للارتباط والحلف السياسي الفولاذي مع العدو الإيراني، وكل ترويج وتبرير لضرورة دعم المقاومة هو خداع لشعوب الأمة واستغفال للقيادات الإسلامية العاملة، لاسيما وقد كشفت عملية 7 أكتوبر والطوفان فضيحة الموقف والأهداف الإيرانية من امتطاء الحركات الفلسطينية المقاومة، وذلك لتحقيق مزيد من نفوذها الطائفي في الدول العربية، كما غاب الموقف الوطني النزيه والإسلامي الواجب والشريف تجاه إيران بعد التدهور الذي لحق بغزة وأهلها وانتقل لمخيمات ومدن الضفة، وتطوعت قيادات حركة حماس بتبرئتها أمام أمريكا وإسرائيل والأمة، متعامية عن ركيزة فكرة وحدة الساحات ومحور المقاومة، والذي أسس لعملية 7 أكتوبر ومعارك الطوفان، وما تشير إليه جل خطابات القيادات السياسية والعسكرية في السنوات الأخيرة، وأكده خطاب الشهداء العظام الشيخ صالح العاروري واسماعيل هنية ويحيى السنوار وقائد القسام محمد الضيف -نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا- تقبلهم الله وجمعنا بهم في جنات النعيم.
إن التجربة الفلسطينية عموما والإسلامية خصوصا تستحق الدراسة والتشريح، وذلك لتحديد أخطائها المنهجية والسياسية والعسكرية، لئلا تتكرر في مساحات وتجارب أخرى، لاسيما والعقل الإسلامي السائد محكوم بنفس التصورات التي سطحت الوعي الإسلامي وجعلت حركاته مفعولا بها أكثر من فاعلة في سياق التغيير.
لقد امتهن الغرب الاستفادة من الأعمال الإسلامية وتوجيهها في الاتجاه الذي يخدم أهدافه المتوسطة والبعيدة، مستفيدا من تسطيح الوعي الإسلامي عند القيادات المقررة، والتي تمارس تجاربها البهلوانية واجتهاداتها الظرفية مستهلكة رصيد دماء الشعوب دون تأنيب ضمير ولا شعور بالإثم!
ومما تجب الإشارة إليه وملاحظته، هو أن عموم التيار الإسلامي السلفي كما الاخواني غرق في أشكال تسطيح الوعي، وذلك رغم موقفه العقائدي الأوضح تجاه إيران الطائفية، إلا أنه استمرأ الحالة الفلسطينية المقاومة وروج لها وأعذرها وبرر مواقفها دون التوقف الواجب أمام أحكام الدين، وأمام دماء ومصالح المسلمين، وهو ما يدعو لطرح الاستفهام والتساؤل حول السبب؟
لابد لتوضيح السبب من مراجعة المسار الإسلامي بين الاخوان والسلفيين، حيث شهدت سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت معارك ساخنة بين الطرفين، وصلت في بعض حالاتها للتفسيق والتكفير، وكان من أهم أسباب هذا الاصطراع الذي بدد طاقات الشباب، هو الخلاف الفقهي حول الولوج للحكم في ظل الطواغيت، والمشاركة في البرلمانات الكفرية التي تشرع أحكامها دون اعتبار مرجعية الدين!
ومن الملاحظ اليوم أن الحركات السلفية سبقت الإخوانية في السعي للمشاركة في الحكم في ظل الطواغيت، وبذل كل جهد للدخول للبرلمانات ومؤسسات الحكم، إلى حد تقديم التنازلات!
فما هو الخلل المشترك بين السلفيين والإخوان والذي أدى لهذا الاضطراب والانقلاب في المواقف والأفهام والاجتهادات؟
إن تضخم ركنية الجهاد والدولة على حساب الهدى والوحي الذي يستهدف إقامة الدين في حياة الناس، كما يستهدف حفظ مصالح المسلمين وتحقيق العمران كما أراد الله، هو سبب مباشر مسؤول عن هذا الفساد في التصور والاجتهاد، حيث أدى هذا التضخم لتحويل الدولة والجهاد إلى أهداف أساسية، وليست وسائل لازمة لتحقيق الأهداف الأصيلة، الأمر الذي أدى لمخالفات شرعية وابتعاد عن هدى الوحي خدمة لركن الجهاد أو هدف تحصيل الدولة!
وخلاصة القول إن الخلل والقصور المنهجي عند الحركات الإسلامية يشير لابتعادها عن جوهر رسالة القرآن والابتعاد عن الوحي المبين، الأمر الذي أدى لمفارقة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الأوائل الكرام الذين نهلوا من مدرسته.
إن مراجعة المناهج الإسلامية متعينة وواجبة على كل من أراد الإصلاح والترشيد.