بحوث ودراسات

مضر أبو الهيجاء يكتب: معاركنا المشروعة بين البطولات وأمانة الدماء

تكمن آفة الأعمال القتالية في تقدم العاطفة على العقل، وفي تصاعد الحماسة على حساب الرشد، وفي سرعة التهور مقابل بطيء وخفوت صوت الحكمة!

ليس المقصود من هذا الحديث تقييم قرار معركة طوفان الأقصى المشرفة وملابساتها، فهذا الموضوع مطروح ومشروح في مقالات عديدة كتبتها سابقا ونشرتها على قناتي، بل إن المقصود هو التصويب في مواجهة حالة من الخلل الشرعي والاهتراء المنهجي والتدني الأخلاقي، تظهر في مقالات وخطابات وتوجه كثير من المتفاعلين مع المعركة، وذلك إزاء الدماء الزكية التي تسقط كل يوم على الأرض المباركة نتيجة عدوان الصهاينة وخذلان الأنظمة العربية وتآمر واستخدام إيران للمسألة الفلسطينية!

إن حرمة عموم الدماء مسألة واضحة في القرآن والسنة ولا تحتاج الى افراد بحث ولا مزيد بيان، وإن دماء الموحدين عظيمة ومعتبرة في النصوص القرآنية والحديثية، وهي لا تقل مطلقا عن حرمة وقدسية المسجد الأقصى المبارك الذي نقاتل لأجل تحريره، فلماذا لا تأخذ الدماء المهدورة حقها من الحديث والاعتبار والحرص بالقدر الذي يأخذه الأقصى المبارك؟

أليس الواجب -بحسب الفهم الشرعي- أن يكون الاهتمام بمسألة الدماء المهدورة والتفاعل إزاءها بسقف أعلى؟

 إن صورة القفز السريع عن الدماء في الخطاب الإسلامي سواء على المنابر أو في المحاضرات أو في بعض المكتوب والمعروض، صورة لا تعبر عن روح الشريعة لا ظاهرا ولا باطنا، بل هي حالة اضطراب وهوس وغفلة تتزايد مع تزايد نزيف الدماء للحد الذي يقترب من رسم صورة العالم الاسلامي كما صوّرها ظلما خطاب المستشرقين المغرضين والذين وصفوا المسلمين بالمتعطشين للدماء!

وهل الايمان بفريضة الجهاد وحب الاستشهاد في سبيل الله وإقرار عظمة الشهداء ورقي مراتبهم، تستدعي تلقائيا القفز عن قيمة وحرمة الدماء المسفوكة ظلما؟ وهل من الطبيعي والصواب أن تترافق زيادة حب الجهاد والاستشهاد مع مزيد من غياب النظر وغياب التوقف وضعف المسؤولية والأمانة تجاه الدماء؟ وهل قيم الدين والهدي الرباني يحضر في السلم بينما يغيب في الحرب، وأين سيرة بن الوليد خالد من كلّ هذا؟

لقد أوجعني حد الألم والبكاء الابراز الكبير للخلق الإسلامي في تعامل المجاهدين مع أسرى اليهود -وهو حق-، فيما قابله خفوت شديد وقفز عن أحجام الدماء المهولة التي تتساقط في غزة كالأنهار صباح مساء، مع ما يخالطها من طوفان أصابنا في كل منحى كالتشريد والتجويع والتهجير والإذلال للكبير قبل الصغير!

نعم إن الطرف الإسرائيلي الأمريكي والايراني هو المتهم الأول والأخير إزاء تلك الدماء –وكل منهم له أجنداته-، ولكن لماذا نعفي أنفسنا بالمطلق من تحمل المسؤولية تجاه الدماء؟

أعود فأقول مبينا، ليس مقصود الكلام الآن بحث أصل قرار المعركة وملابساته، بل المقصود هو الإشارة إلى تعامل مختل في ميزان الشرع، ومضطرب أخلاقيا، وخطر حركيّا وسياسيا في المدى المتوسط والبعيد، وذلك بسبب شكل وتعامل كثير من القيادات الفلسطينية والدعاة والمشايخ وبعض الكتاب العرب والمسلمين إزاء حجم الدماء التي تراق!

إن الدعوة التي سمعتها عن أحد دعاة المنابر وهو يخطب في الناس قائلا إن معركتنا اليوم تستحق أن يموت فيها مئات الألوف بل ملايين المسلمين، هي دعوة شخص مهووس أو في حالة خفة وغياب عقل، وهو لا يعبر عن روح الشريعة ولا قيمها، والتي جاء كثير منها لأجل حفظ الدماء أصلا، لاسيّما وهو المقصد الثاني بعد حفظ الدين.

لقد كتب بعض الإخوة الكرام -ذوي الخلفية الإخوانية- عناوينا لمقالات تسوّغ وتهوّن من السقوط المريع لعشرات الألوف من الضحايا المدنيين في معركة طوفان الأقصى وفي سبيل تحريره، دون الاشارة الى أن الأقصى لم يتحرر بل احتلّت غزة، ومنعت الصلاة في الأقصى منذ شهرين على النحو الذي كانت عليه سابقا، وبقي محصورا بمن أعمارهم فوق الثمانين وفي بعض الأحيان لمن هم فوق الستين!

كما أبرز بعض الإعلاميين الأفاضل -ذوي الانتماء الإخواني- عظمة وروعة العمليات الجهادية البطولية التي قام بها مجاهدونا الأبرار -وهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا-، ثم تابع حديثه وعزّزه بشهادات العدو الإسرائيلي التي تتحدث عن صعوبة المعركة وشدة وبأس المجاهدين والعجز عن الحسم العسكري -رغم ملاحظاتي على أهداف العدو من هذا الترويج-، دون أن يولي مسألة الدماء النازفة القدر المساوي أو المكافئ لحديثه في الجانب الإيجابي من المعركة، للدرجة التي تشعر فيها وأنت تتابعه أنه لا توجد عذابات فظيعة نعيشها كل دقيقة في غزة! تلك العذابات وأشكال القهر التي لو أخذت حقها اللازم من الوصف لتفطرت من فظاعتها الأكباد!

كما تحدث بعض الدعاة -ذوي الخلفية السلفية- محذرا من إبراز صور الضحايا وترويجها، مشيرا إلى أن كثيرا ممن يقوم بهذا العمل فإنه يهدف لاتهام المقاومة والتخذيل عنها، داعيا إلى الاستمرار وعدم الالتفات!

بعد هذا العرض الموجز لأشكال تفاعل كثير من القيادات والدعاة والكتاب مع معركة طوفان الأقصى وتداعياتها، يمكن القول بأن المشروع الإسلامي أمام خطر حقيقي مستقبلا وفي المدى المتوسط، وذلك في جانب إقبال الناس عليه والتحشّد خلف قياداته التي لم تتعامل أو تتوقف كما ينبغي أمام مسألة الدماء، بل استهانت بها وتهاونت معها!

وفي ظل هذا المستوى من تحمل المسؤولية والتهاون في التعامل مع الدماء، فإنه من الممكن للأنظمة والمشاريع المعادية أن تجير بعض الخطوات أو السلوك الجهادي لصالح مشاريعها فترفدها أو تحل أزماتها، كما حصل في تجارب عديدة في البلاد العربية والاسلامية!

إن المسلم القائد والداعية الموجّه والمطلوب هو ليس الكاتب أو الداعية أو الشيخ الذي يجيد نقل صحيح الدين، بل هو من يصيب في فهم الدين وتنزيله على الواقع، وتحقيق مقاصده والالتزام بأحكامه.

إن صورة شعوبنا الحقيقية اليوم سواء في غزة والقدس والضفة أو في العراق ومصر واليمن والشام والسودان الجريح هي صورة الضحية، ومهما تعاظمت فينا وبيننا البطولات والتضحيات المحقة والمشروعة لإزالة الظلم الواقع علينا سواء من الاحتلالات الأمريكية والإسرائيلية والإيرانية، فإن صورتنا الدقيقة والواقعية هي أننا ضحايا بامتياز لظلم قائم كبير وفظيع.

إن التصوير القائم في الخطاب الإسلامي اليوم – وعلى وجه الخصوص في الشأن الفلسطيني – يعرضنا كأبطال ومجاهدون! وهذا هو الجزء الأصغر من الحقيقة والذي لا يعكس الواقع الموضوعي بشكل شامل، فلو أخذنا غزة وأهلها اليوم فإننا نجد أمام كل مجاهد ومقاتل تسعة وتسعون ضحية بين قتيل وجريح وأسير ومشرد ومفقود، بينما خطابنا الإسلامي يتحدث عن الواحد بالمائة من الأبطال ويعرضه وكأنه التسعة والتسعون، كما يتحدث عن التسعة والتسعين من الضحايا وكأنه يتحدث عن واحد بالمائة!

والسؤال الذي يفرض نفسه هو، من أين تأتّى هذا الخلل، وكيف تبلور حتى بات صورة ثابتة في العقل الإسلامي الحركي، وسلوكاً متداولا في التفاعل مع معارك الجهاد الإسلامي؟

أعتقد أن العقل العربي خصوصا والعقل الإسلامي عموما قد وقع في تصور خاطئ نتيجة أشكال الاحتلال والظلم التي يعانيها منذ قرن ونيف، حيث ضخم ركنية الجهاد على حساب مفهوم عمارة الأرض نتيجة واقعه الموضوعي ، ومن نافلة القول الإشارة إلى ركنية الجهاد وفريضته وعظيم أجره وأنه سنام الإسلام، ولكن الجهاد أحد الأركان وليس كل أركان المشروع الإسلامي، والذي يستهدف في الحقيقة عمارة الأرض، وذلك وفق التصور القرآني ووفق الفهم النبوي الذي أمر من بيده فسيلة أن يغرسها في الأرض حتى لو قامت القيامة وكان حينها يمسكها بيده رغم هول الموقف، وما ذلك إلا توجيه نبوي لرسالة الدين في وجوب عمارة الأرض.

إن ضغط الواقع القاسي وتحدياته من جهة، ومن جهة أخرى فان الشخصية العربية والإسلامية المعروفة بصفات الشجاعة والاباء والعزة والشهامة، بالإضافة إلى الابتزاز الأخلاقي الذي يمارسه البعض، فان هذا كله يدفع الكثيرين إلى التداعي والانجرار خلف الصوت الأعلى دون نظر متزن، وكأنه كلما علا الصوت كان دليلا على نصوع الحق وصوابه!

وهنا لابد من الإشارة إلى كتاب الله وكلامه الكريم والذي أنزله رحمة ونورا وهدى للعالمين، فالقرآن الكريم كتاب هداية وان حوى علما ومعلومات كثيرة الا أنه لا يسمّى كتاب علوم بل تظلّ صفته الأولى والرئيسية أنه كتاب هداية، الأمر الذي يشير إلى ضرورة البحث الدائم عن الهدي الرباني وليس الصوت المرتفع والعالي!

وفي اعتقادي أنه قد تبلور هذا التقصير المخل في التعامل مع واقع شعبنا الفلسطيني ومأساته وأنهار دمائه النازفة في معركتنا الحالية على يد الأمريكان المعتدين والصهاينة المحتلين، نتيجة لخصوصية التفاعل العاطفي مع قضية الأقصى في الوجدان الاسلامي ونتيجة أيضا لعصبية الانتماء! فلو أن بن لادن أو طالبان من أطلق المعركة وسقط فيها هذا الحجم الكبير من الدماء الزكية لكان هناك موقف وقول مختلف لدى كثيرين!

لقد كان موقف الشيخ يوسف القرضاوي -رحمه الله – موقفا راشدا وحكيما في التعامل مع طالبان في واقعة تهديم الأصنام عندما أثارت خطواتها حراكا غربيا ينذر بنزيف الدماء، ومع فارق التشبيه بين خطوة طالبان في هدم الأصنام التاريخية في أفغانستان، وخطوة المجاهدين المشرّفة في فلسطين باستهداف التحرير المشروع وإزالة الظلم الواقع على الأقصى المبارك، إلا أن مقصود الإشارة هو الإشارة إلى شكل التعامل مع الدماء قبل وقوعها، فكيف ينبغي أن يكون التعامل إزاءها بعد أن سالت أنهارا في غزة وكذلك في جنين والقدس ومدن الضفة!

إن تناولي لموضوع آفات الأعمال القتالية والجهادية جاء بعد الاسراف والمبالغة في تصوير النتائج على أنها عظيمة دون الحديث ولا التطرّق لتحقيق الأهداف المرجوّة من أصل الفعل، كالحديث الرائج عن إسلام بعض أفراد الغرب -وهذا خير وفضل- والتفاعل العظيم مع تلك الأخبار الواردة، دون الاشارة لمقتل ثلاثين ألفا وجرح ستين ألفا وتهجير مليون ونصف !، وبنفس الوقت خفوت وضعف كبير في تصوير حقيقة أحوالنا وشعبنا على أننا ضحايا ظلم كبير ونذبح ذبحا على مرأى من العالم ومسمع، ثم يهرس من بقي منا حيا تحت إطارات الجرافات العسكرية! أفلا يستحق منا هذا أن نرفع سقف الحديث وشكل التصوير لنعكس صورتنا الحقيقية كضحايا دون التضخيم أو التوقف حول صورة الأبطال وشعب الجبارين؟!!

ثم كيف يستقيم أن يكون هذا خطابنا وحالنا كل يوم في ظل معركة طوفان لم تحرر شبرا من الأقصى بل سلبت منّا أجزاء ومساحات أخرى، فيما يبقى دعاتنا يتحدثون عن آيات الرحمن في جهاد الأفغان، ويسرفون في الحديث عن البطولات والتضحيات المحقة والمشروعة، ولكن على حساب أحقية وضرورة تصوير واقعنا كضحية، لاسيّما وتلك الصورة تحتل تسعة وتسعون بالمائة من الواقع الموضوعي الذي تعيشه كل فلسطين، حيث تنزف دماؤنا بلا حساب وتدمر بيوتنا بلا حدود، ونعيش أهوالا وأحوالا من الإذلال نتيجة عدوان أمريكي إسرائيلي وتواطئ عربي رسمي وغدر ايراني، وبعد هذا يأتيك مهووس صاعدا على المنبر متحدثا عن وجوب واستحقاق موت مئات ألوف المدنيين بل ملايين المسلمين، عارضا كلامه على أنه فهم الدين القويم!

رحم الله بن الوليد خالد حين انسحب من معركة عظيمة بعد أن سقط فيها صحابة كرام تقديرا واعتبارا وحفظا لدماء المسلمين التي كان أمينا عليها وفي مستوى المسؤولية الشرعية والأخلاقية.

لقد بات المطلب الأول عند قياداتنا الفلسطينية المجاهدة هو ايقاف المعركة، وهي من الناحية السياسية مطلب يتوافق مع دعوة محموس عباس وقولته الشهيرة في الأمم المتّحدة –والتي أصبحت ترندا للاستهزاء- (احمونا احمونا مشان الله احمونا)، الأمر الذي يشير الى عظم الكارثة التي نعيشها في غزة كضحايا مكتملي الأوصاف، وهي حقيقة يجب أن نجهر بها ونرفع أصواتنا ونصرخ عاليا بشكل يكافئ ويوازي نزيف الدماء والأمانة تجاهها، وهذا لا يتعارض مع حقيقة توفّر أبطال ومجاهدين أبرار في شعبنا الذي كان ولا يزال مجاهدا في كل حقبه وطيلة قرن من الاحتلالات.

ختاما أقول ان المسؤولية الشرعية والسياسية والأخلاقية تقتضي أن نصف الأمور كما هي واقعا موضوعيّا دون تطفيف مخلّ يصوّر الفلسطينيين على أنهم أبطال خارقين يقومون بالمعجزات، الأمر الذي يعفي باقي الشعوب عن واجبهم الجهادي والقتالي اليوم وفي المستقبل حتى يتحقق التحرير لأقصى المسلمين بإذن الله، كما أن الأمانة تجاه الدماء وأرواح البشر توجب التعامل معها وازاءها وفق ما يحفظها ويضمد جراحها ويقلل عذاباتها، وهو سلوك راشد ومسؤول لا يعيق الجهاد ولا يتسبب في خفوته بل يفرض تغيير سلوكه، وهو معنى متحرفا لقتال أو متحيزا الى فئة، كما أن التوصيف الدقيق لشعبنا كضحية والتعامل الأفقي والعمودي مع تلك الحقيقة واشاعتها هو مدعاة لرفع مستوى النصرة والانقاذ من قبل الشعوب الأخرى، ومن المفيد هنا الاشارة والتنبيه الى التفاعل الشائع والساذج مع الترويج الاسرائيلي المقصود، وقولهم بأنهم يقاتلون أشباحا أقوياء وأشداء وأنهم لا يمكن قهرهم، ففي هذا اعفاء لقوى وحركات الشعوب العربية والاسلامية من القيام بدورها الجهادي، وأقلّه التسبب في خفوت وضعف واجب السعي لإسناد العمل الجهادي باعتبار أن شعب الجبارين لوحده يكفي لتحقيق معادلة الردع، فلم التدخّل اذن ؟، فيما الجيش الاسرائيلي يقتل منّا يوميا مئات البشر ويدفن ويهرس بجرافاته عشرات الأحياء والجرحى والنازحين ويدمّر البيوت ولا يبقي حجر على حجر، ونحن مردّدين أن اطمئنوا فإخوانكم المجاهدين بخير!

اللهم انا نسألك وأنت الله القادر العظيم الكريم أن تنصر مجاهدينا وأن تحفظ شعبنا وعائلاتنا ورجالنا ونساءنا وأن تضمّد جراحنا، ونسألك وأنت القهار الجبار أن تهزم عدوّنا وعدوّك شر هزيمة، اللهم وأنت السميع العليم البصير نسألك لكل من تواطأ علينا وخذلنا وحاصرنا وتآمر على تجويعنا أن تحيطه بعذاب من عندك ومكر يجعل عاقبة أمرهم سوءا، اللهم والطف بأهلنا في السودان الجريح المكلوم، الذي تغتصب فيه النساء مع كلّ هجوم للملاحدة والكفرة والمعتدين، اللهم وخفف جراحنا في اليمن ومصر والعراق والشام وانصرنا على القوم الكافرين يا عظيم يا جبار .

ما قلته من حق فمن الله وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله

مضر أبو الهيجاء فلسطين-جنين 20-12-2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى