بحوث ودراسات

مضر أبو الهيجاء يكتب: معركة الوعي أم المعارك في أمة اقرأ

من المفرح جدا أن تشاهد الشاشات تعرض خروج الأتراك بعشرات الآلاف متظاهرين في كل المدن التركية مع قضية الأقصى ودفاعا عن أهل غزة الذين يدافعون بجهادهم ودمائهم عن أقصى المسلمين.

ومن المحبط جدا أن ترى على الشاشات العشرات والمئات من مجهولي الهوية في تركيا يخرجون ليكسروا ويحرقوا بيوت ومحلات ومركبات المهاجرين والعرب واللاجئين في بعض المدن التركية!

مشهدان وموقفان لا يعبران عن طرف واحد، بل يشيران إلى حالة انفصام مجتمعي نكد يؤشر نحو مخاطر ومهالك فظيعة.

كما تشير مشاهد العنصرية الفاشية المفتعلة إلى مخطط يستهدف يقينا تفكيك تركيا سياسيا بعد تفتيتها اجتماعيا، وهو سعى وإلهاء مطلوب للحالة التركية عن أمر قادم لا محالة.

إن المتابع لقصة اعتداء أحد الأجانب من المختلين عقليا بشكل جنسي على طفلة أجنبية -دون الدخول في التفاصيل التي لم تظهر حقيقتها بعد-، ثم يتم تصوير المشهد في حمامات مدينة قيصري ونشره في وسائل الإعلام السوداء، ثم بعدها بأسبوع يتكرر المشهد نفسه في مدينة اسطنبول، فيعتدي أحد اللاجئين على أحد الفتيان من طلاب العلم في المسجد ويتعمد الاعتداء عليه تحت الكاميرات … أمر يشير إلى فعل مدفوع ومدبر يستخدم بعض المجرمين أو الدونيين للوصول إلى أهداف ومخطط ابن سبأ، والذي نجح تاريخيا في تمزيق النسيج المجتمعي في المدينة وأدى لقتل خير البشر آنذاك، الصحابي الجليل ذو النورين عثمان بن عفان.

تركيا أمام مشهد حقيقي تحتاج فيه إلى حكمة الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، وقوة وإدارة الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان .. لعلها تنجح في إنقاذ نفسها وشعبها المسكين من مستقبل أليم لا تقل آلامه عن آلام السوريين والعراقيين.

إن معركة الوعي هي أم المعارك المفروضة والواجبة على أمتنا التي تميزت بأنها أمة إقرأ.

إن الوعي المنقوص أشد خطورة من انعدامه في زمن الفتن الظلماء، الأمر الذي يشير إلى الأولوية المفروضة في المرحلة الحالية على تركيا، كما يشير إلى واجب ودور العلماء والنخب السياسية والروابط المجتمعية التركية، لعلها إن تضافرت جهودها تنجو من مصير العراق وسورية، ومن مآلات نقص الوعي الذي دمر حلم الأمة في مصر الأبية.

وبعد هذا يأتيك مسطحو العقول قائلين، دعنا من الكلام فالأمة لا تحتاج له، والوقت وقت عمل، فدعكم من الكلام الذي دمر ثوراتنا ومشاريعنا النهضوية!

غفل هؤلاء عن أن كل التدمير والفشل الذي حصل في تجاربنا المعاصرة وبيئاتنا الجغرافية، لم يكن نتيجة قلة الجهود وغياب العمل ونقص البذل، فأمتنا لم تبخل يوما بالتضحية والجهاد بالمال والنفس، بل جاء التراجع والفشل نتيجة نقص الوعي وخلل الفهم، ونتيجة الارتباطات المشبوهة والتحالفات الآثمة، وهو ما دمر تجاربنا في العراق والشام ومصر وفلسطين وغيرها من البؤر الساخنة التي نزفت فيها الدماء دون نتائج لصالح الأمة، ودون تحقيق رفاه للشعوب أو حتى تخفيف فقرها وبؤس أوضاعها.

والخلاصة أن المخاطر التي تنتظر تركيا لا تقل عما تحقق في الجغرافيا العراقية والسورية، بل تزيد عنهما لأنها تأتي في ظل أزمة اقتصادية وفي ظل معركة هوية داخلية وفي ظل محيط ملتهب سياسيا ومضطرب عسكريا ومخترق أمنيا في كل محيط تركيا.

حمى الله تركيا والأتراك من مشروع الفتنة الداخلية الحالقة، والتي قرر مؤججوها أن ينفذوا من خلال الثغرة الأضعف في ظل سباق الأحزاب السياسية والوعد الذي يقطعونه للناخبين بإعادة السوريين وإخراجهم من تركيا -باعتبارهم السبب في نقص الأكسجين في السماء التركية، وهلاك الزرع وغياب الرزق على الأراضي التركية !!!!-.

إن نافذة المهاجرين واللاجئين السوريين المستضعفين أصبحت فرصة ذهبية للمهووسين، وذلك بعد أن بات جميع السوريون أيتاما بلا أب يؤويهم ولا ممثل عنهم يحميهم، فكان الله في عون السوريين الذين هم فاتحة استهداف المصريين واليمنيين وجميع العرب المستضعفين، وحفظ الله تركيا وشعبها الغيور على القرآن والسنة والدين، ومكنهم من تفكيك وإفشال مخططات المخربين والمجرمين.

الوعي المنقوص أخطر من انعدامه في زمن الشدائد.

يمكن لمن يبحث عن جوانب الخير أن يجدها في عموم الحركات والدعوات والمعارك، كما يجد جوانب من الخير في عموم الطروحات والمناهج.

إن النظر والتفكير والبحث المحصور والمحدود بالنظر في جوانب الخير، هو أخذ بنصف معادلة التفكير الواجبة، حيث يحكم على نفسه بأن يبقى وعيا منقوصا وفعلا غير مسؤول، بل ويؤول إلى المهالك إن ارتبط بمشاريع التغيير والتحرير والعمران والدماء.

ولعل بعض المتحمسين المندفعين لا يستوعبون هذا المعنى ولا ينضبطون بإيقاعه عندما يتعلق الأمر بقضايا الشأن الإسلامي العام والدماء، ولكنهم تتبدل أحوالهم ويختلف تناولهم وتنقلب موازينهم في النظر والتدبير والقرار عندما يتعلق الأمر بأموالهم وتجاراتهم، فتجدهم لا يقبلون التوقف عند الجوانب الإيجابية، ويتوسعون في النظر لكل المحاذير والمخاطر والاحتمالات الواقعية والنظرية، ويبحثون عن الضمانات ليضيقوا مساحة الاحتمالات الفرضية!

فكيف تتحقق السوية في الاجتهاد والفقه والتفكير، ويستوي العقل في النظر والتدبر والحكم عندما يتعلق الأمر بقضايا المرء وتجاراته وشؤونه الشخصية، ثم ترى صاحبه متحدثا دون عمق نظر ولا تحسب ولا توقف عندما يتحدث في قضايا مصيرية ومستقبل الناس ودمائهم الزكية، مكتفيا ومضخما للجوانب الإيجابية غافلا أو متعاميا عن النظر في احتمالات المهالك وهدر الدماء دون رجحان تحقق الأهداف، مغامرا بمن سلموه رقابهم، وبنفس الوقت تجده شديد الحرص على صيانة وحفظ مكاسبه الشخصية والحزبية؟

أقول وقولي صواب يحتمل الخطأ:

إن عصرنا مبتلى في جانب مدارس التفكير على المستوى العربي والإسلامي والفلسطيني، والتي تمثلها ثلاث شخصيات -والعبرة بعموم المقصود وليس بخصوص الشخص المذكور-:

1/ نموذج مدرسة التفكير في الفضاء العربي الدكتور عزمي بشارة.

2/ نموذج مدرسة التفكير في الفضاء الإسلامي الأخ الإعلامي أحمد منصور.

3/ نموذج مدرسة التفكير في الفضاء الفلسطيني الأخ الإعلامي وضاح خنفر.

ثلاث شخصيات محترمة وموقرة نتابعها ونحترمها ونستفيد مما نجده من خير في طرحها.

ولكن تلك المدارس الثلاث باتت تشكل عنوانا للتيه القائم في تجاربنا وثوراتنا المعاصرة، أو معضلة أمام إنعتاق الوعي المأزوم.

ويمكن القول بصراحة إن نموذج مدرسة عزمي بشارة سبب في تيه وخديعة شعوب الأمة، كما أن نموذج مدرستي أحمد منصور ووضاح خنفر سبب في تسطيح الوعي ومدرسة في التطفيف المفضي للهدر والضياع، وتتفق المدارس الثلاث على الجوانب الوردية سواء أكانت موهومة أم حقيقية!

إن عزمي بشارة يشكل مدرسة في التفكير والموازنة والترجيح تتسم أكثر من غيرها بالفهم والمعقولية، ولكنها مخروقة في نظرتها الكلية، ومطعونة في منظومتها المتصادمة أو المفارقة للدين، رغم أن الدين هو السر في تشكيل أمتنا الحالية، وهو سر حفظ اللغة العربية، وهو منشأ الطاقة والحيوية التي تحرك الشعوب العربية، فكيف يصبح رواد منظومة التفكير المتصادمة مع الوحي والمختلفة في فهمها للمقاصد الكلية والمغايرة في أهدافها النهائية رائدا يوجه حركات التغيير والتحرير الإسلامية؟

نعم إن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، ولكنها الحكمة التي تضاف إلى تصوره الكلي الذي يوجه ويقود، وليست وجة نظر جزئية يصبح صاحبها رائدا وموجها في مشروع التغيير والتحرير، فينقل الناس من تيه قديم إلى تيه جديد، متجملا ببعض المقولات الدينية والجوانب الإيجابية!

أما عن نموذجي المدرسة الإسلامية والفلسطينية المعاصرتين فقد تنمطتا بالنمط الذي يعبر عنه الأخوين الإعلاميين أحمد منصور ووضاح خنفر، حيث تتسم المدرستان بالعاطفة الغالبة، وضعف النظر العقلي، والانفصام بين حقائق الدين والسنن الإلهية التي نؤمن بها جميعا، وبين التطفيف في وصف الواقع وتجميل الوقائع والقبائح التي يقف عليها أصحاب الخلفية المشتركة والانتماءات الحزبية الواحدة، فما تقوم به حركات الإخوان المسلمين كله خير ومآله النصر المبين مهما تخلله من كوارث ومصائب وأخطاء وتحالفات مدمرة ومخالفة للدين، أما إن كان على رأس نفس الفعل طرف آخر لاسيما تنظيم القاعدة أو شخوصه المتهمة، فيكون الفعل مرفوضا ومردودا ومنتقدا وآثما، وتتوسع اللقاءات والبيانات الموقعة والمحاضرات والندوات للدلالة على هذا المصاب الأليم في واقع الأمة والذي سببته حركات ومناهج وتوجهات يجمع الغالبية على التبرؤ منها!

مع أن واجب المسلم النزيه أن يتبرأ من الخطأ على مستوى الأفكار والمناهج والمواقف والممارسات التي تخالف أحكام الشرع، أو التي تتصادم مع مصالح المسلمين، أو التي تصب في تضييع الدين أو إضعاف تمكينه.

فما بال البعض يتسع صدره ويرخي أذنه ويستفيد عقله ممن هم متناقضين مع الدين، معتبرا ذلك من صفات المسلم المعاصر، ثم تراه يضيق صدره ويغلق عقله ويصم أذنيه عن إخوانه المختلفين والمخالفين والمخطئين؟

نحن اليوم أحوج ما نكون لتشكيل مدرسة جديدة في التفكير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى