مضر أبو الهيجاء يكتب: ويكيليكس القضية الفلسطينية

روايتي الكاملة والحقيقية لعملية 7 أكتوبر ومعركة الطوفان، أعرضها كاملة بين يدي القارئ، وذلك حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
حال دون حديثي بشكل عميق نصح بعض العلماء الكرام، وتجنبت الحديث الكامل، ولم أكن أرغب في التحدث بصورة كاملة عن حقيقة عملية 7 أكتوبر، والتي بني عليها معارك الطوفان الذي انتهى بتدمير غزة وأهلها، وتفكيك الضفة الغربية وتعريضها وأهلها لمخاطر تاريخية، وتراجع سياسي كبير في القضية الفلسطينية.
لكن الذي دعاني اليوم للحديث بشكل واضح وجلي يكشف الحقائق، هو أن هناك خلطا مغرضا وإثما يبنى عليه واقع مختل ومسار مستمر في الانحراف، كما يوثق خدعة تاريخية تخدع أجيال العرب والمسلمين لقرون قادمة، ومفادها أن المشروع الإيراني الشيعي السياسي والطائفي نصر غزة وسعى لتحرير أقصى الموحدين، وبنفس الوقت يستمر التوصيف الظالم لأمة العرب والمسلمين ونعتها بالخيانة وبالمتخاذلة.
وحتى لا يجري في مستقبل أجيالنا القادمة ما جرى علينا نحن من قراءة أحداث تاريخية ملتبسة، صاغ أعداء الإسلام -على وجه الخصوص من الطوائف المعادية للأمة والمفارقة لهويتها الثقافية- كذباتها وإفكها المبين وجعلوا منها حقائق تتبناها أجيال الأمة، وتلبس الحق بالباطل وتضعف نقاء الدين وفهم أهله، كما تضعف سوية رواده الناصحين والمصلحين والمجاهدين.
فما هي الرواية الحقيقية لعملية 7 أكتوبر، وما الذي بني عليها تحت مسمى طوفان الأقصى ومعركة التحرير؟
1/ بدأ الحديث حول معركة الطوفان -بدون تسميتها- عام 2020، حيث بدأ نسيج التفاهم حول المعركة بين حزب الله اللبناني وحركة حماس برعاية إيرانية، حول ترتيب معركة قادمة يتحقق فيها الوعد وتقتلع إسرائيل وتتحرر فلسطين وينعتق أقصى المسلمين.
كان الحديث يدور بين قيادات رئيسية سواء على مستوى القيادة السياسية أم قيادات الجهاز العسكري القسام، وكانت الجدية فيه عالية ومتقدمة، وعن قناعة بادية، بأن زوال إسرائيل وتحقق النبوءة سيكون قريبا على إثر معركة كبرى يتم التجهيز لها بشكل مشترك بين حماس وحزب الله وإيران.
2/ أيقنت إيران وحزب الله أن قيادة حركة حماس قد تشبعت بالفكرة لدرجة الإيمان المتقدم بأن زوال إسرائيل سيكون قريبا، وقد بدأ التجهيز للأمر من خلال تدريبات وتجهيزات برعاية إيرانية وتعاون كبير مع حزب الله في لبنان.
3/ لقد جاءت فكره الإصرار على عودة قيادة حركة حماس للنظام السوري ورئيسه المخلوع على أرضية تصور مشترك بين حماس وإيران حول معركة قادمة، وهو ما قاد للإعلان عن فكرة وحدة الساحات، والتي تعاملت معها بعض قيادات حماس السياسية والعسكرية بشكل كامل وحقيقي، كما عبر بعض قياداتها عن الأمل الكبير في التعويل على المكون الإيراني في الساحات العربية، وتخصيص بشار الأسد بالإشارة في هذا السياق.
4/ لم يكن ممكنا لحركة حماس التي تشكلت وأعلنت عن نفسها عام 1987، وكونت جهازها العسكري بشكل تراكمي، أن تطلق معركة بهذا الحجم، وبالنظر لمآلاته المتوقعة دون توافق كامل مع إيران وحزب الله على عناوينه الرئيسية، ودون شراكة متفق عليها في التعويل على مفهوم وحدة الساحات التي تتموضع بها الأذرع الإيرانية -وقد صرح بذلك المجاهد محمد الضيف في خطاب المعركة الأول-.
5/ إن إيران الخبيثة والماكرة والمستكبرة كانت تعلم ماذا يعني فتح معركة كبرى مع أمريكا في فلسطين المحتلة مستهدفة الكيان الإسرائيلي، ولذلك فقد أجلت الأمر إلى حين حانت ساعة الاحتياج لاستخدام المكون الفلسطيني وامتطائه لتحقيق أهداف نوعية وليست تكتيكية معتادة.
لقد قرأت إيران وتيقنت بأن هناك تحولا قادما باتجاه تغيير نمط العلاقة الأمريكية مع المكون الإيراني الوظيفي في المنطقة، وأن هناك تحجيما قادما لها يتناقض مع مشروعها وتصورها الخاص بها كمشروع إيراني سياسي، يبحث عن نفوذ أكبر في المنطقة العربية من خلال توافقه الوظيفي مع الساسة الأمريكيين منذ أن سلموا مفاتيح طهران للخميني.
6/ جاءت سنة 2023 فوسوس الكاهن الإيراني في آذان قيادة حماس -بأسلوبه الخبيث والماكر الذي يعلمه كل من يتواصل مع الساسة الإيرانيين- وعلى وجه الخصوص مع قيادات غزة الفاعلة بأن حان الوقت، كما تواصل الحزب في لبنان مع الشيخ صالح العاروري وبدت الصورة تكتمل.
7/ تناولت قيادة حماس الأخيرة هذه الإشارات بجدية كبيرة لإطلاق معركة التحرير الكبرى، وإزالة إسرائيل من الوجود، وتحقيق الوعد الإلهي بالتعاون مع المشروع الإيراني وذيوله في الساحات الخمس، ولكن إيران الكاهنة كانت تدرك أن أقصى ما تريده من خلال هدرها لدماء الفلسطينيين واستخدامها للقضية الفلسطينية، هو أن تسبق التحول الأمريكي الاستراتيجي في العلاقة السياسية معها، وذلك من خلال خلق وقائع جديدة في أكثر النقاط الساخنة والمؤثرة والجاهزة في المنطقة -في ظل وجود المادة الخام والصاعق الفلسطيني المتاح-، وهي الكيان الإسرائيلي الوظيفي والخادم للسياسة الأمريكية.
8/ لكن إيران الطموحة والمستكبرة نسيت أنها مهما تميزت بالخبث والدهاء السياسي فإن أمريكا أوسع خبثا وأعمق دهاء منها، لاسيما وأنها لم تغادر في يوم من الأيام مواقعها العميقة في بنية الدولة الايرانية وأركانها الرئيسية.
9/ لقد تلقفت الإدارة الأمريكية مبكرا موضوع العملية القادمة والنوعية التي ستقوم بها حركة حماس دون أن تعلم بأنها ستكون مطية لإيران، والتي لم تطلق معركتها مع إسرائيل منذ نصف قرن فيما نجحت في هدم عدة دول عربية، كما كانت إيران متيقنة من أن مجاهدي فلسطين الصادقين سيبذلون جهدا وتضحيات فدائية منقطة النظير، وذلك انطلاقا من عقيدة إيمانية وصبر ويقين، كعموم شعب فلسطين الذي أنجبت أمهاته هؤلاء المجاهدين الساعين في طريق تحقيق هدف نبيل ومشروع هو إزاله هذا الاحتلال والطغيان من الوجود وتحرير الاقصى واسترداده لحضن المسلمين.
10/ اكتملت الصورة عند الإدارة الأمريكية التي كانت ترقب عن كثب كل عمليات السفر والانتقال والتدريب بين غزة ولبنان ودمشق وطهران في الفترة التي سبقت العملية بعدة شهور، فهيأت الإدارة العميقة في الكيان الوظيفي إسرائيل، وذلك ليضبط إيقاع جهاز الأمن الإسرائيلي وجيش الدفاع الصهيوني بما يحقق اكتمال الدائرة وتحقيق الفرصة الواعدة بالنسبة لأمريكا التي تسعى لإنجاز نقلة نوعية في المنطقة وتعيد ترتيبها وفق تصورها السياسي الجديد، والذي يأخذ بعين الاعتبار التحديات والمخاطر العالمية التي تزحف باتجاهه وتسعى لمفاجأته.
11/ لقد أعرب الأمريكيون في بعض جلساتهم الخاصة مع حلفائهم عن قرب هذا الحدث العظيم والمنتظر مشيرين إلى عملية عسكرية ستقوم بها حركة حماس، حيث جهزوا أنفسهم لها، كما هيأوا الإدارة الإسرائيلية ودولتها العميقة للتعامل معها وفق التصور الأمريكي الساعي لإغراق إيران وإهلاك حركة حماس، ودفن الشعب الفلسطيني وتحطيم القضية الفلسطينية، وإعادة صياغة العلاقات العربية وفق سقوف جديدة.
12/ وقعت الواقعة في يوم 7 أكتوبر 2023، ففوجئت قيادة حركة حماس وجهاز القسام العسكري بانهيار غير طبيعي في غلاف غزة العسكري والمنظومة الأمنية الإسرائيلية المعقدة، الأمر الذي سمح لقيادة القسام بالذهاب بعيدا في العملية، وذلك إلى حيث الحدود التي فرغها وضبط إيقاعها الجهاز الأمني الإسرائيلي عن وعي وقصد، متربصا بمجاهدي القسام ومتوعدا شعب فلسطين.
13/ أدركت إيران التي تابعت تفاصيل المشهد كاملا بأن أمريكا قد خدعتها، وليست هي من خدعت أمريكا من خلال خلق وقائع جديده، بل إن أمريكا كانت أكبر مكرا بإيران وأحاطت بها واخترقتها، وسمحت بتجليات مشهد النصر الخادع، وعززت ذلك من خلال رواية يومية ومواد ووسائل من خلال قناة الجزيرة التي أمعنت في تلقيم الطعم لعموم شعوب الأمة العربية والإسلامية -بخطاب عاطفي يهيج المشاعر- وخصوص شعب فلسطين وقيادة حركة حماس، وذلك للدرجة التي بات فيها انفصام في الشخصية الفلسطينية وخصوصًا قيادة حركة حماس، والتي أمست ترى أشكال الهزيمة بأجلى صورها التي حطمت غزة ومزقت أهلها، فيما تصر على أن ما يحدث اليوم هو أعلى أشكال النصر وأن ملائكة الرحمن تقاتل مع المجاهدين في شمال قطاع غزة، حتى أن الناس تسمع زخ الرصاص والجنود الصهاينة يتساقطون دون أن يكون هناك من يطلق النيران!
14/ وقع الفلسطينيون في الفخ وهم لا يدرون، فيما أدركت إيران أنها وقعت في ورطة كبيرة، وأن أمريكا غررت بها وخدعتها، فسارعت القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية في طهران ومن خارج إيران -وذلك منذ اليوم الأول- بالتصريح المتكرر دون كلل ولا ملل، والقول بأنها لا تريد توسيع دائرة الحرب، ثم على الفور انتقلت من هدف استراتيجي فاشل -يروم خلق وقائع جديدة في المنطقة تحفظ لها نفوذها في ظل تغيير قادم ومقروء في السياسة الأمريكية نحوها- إلى هدف تكتيكي يعرضها كما تقدم نفسها كضامن أول ووحيد لضبط الساحات العربية لصالح عدم توسع المعارك وحصرها في غزة، حتى لو هلكت وهلك أهلها، مقابل أن يبقى لها أسهما معتبرة في النظر السياسي الأمريكي كضامن لعدم اشتعال المنطقة، وعنصر يضبط الساحات كما يلجم إيران نفسها لصالح تطمين الادارة الأمريكية.
15/ لم يتألق في تلك الظروف أحد كما تألق الطرف الأمريكي حيث أوصل الطرف الإيراني لأسوأ محطة كان يتخيلها كقفزة نوعية ترفع من أسهم نفوذه الوظيفي، وإذا بالأمريكي يريدها كركيزة لتحقيق هدفه في تحجيم المشروع الإيراني وإعادة تشذيبه وفق رؤيته الجديدة في المنطقة والإقليم، فتعامل بدهاء وذكاء، حيث غازل الأطراف السياسية والعسكرية الإيرانية، معربا لها عن رضاه بقرارها بعدم توسيع المعركة، ومؤكدا لها بأنه مقتنع تماما بأن إيران بريئة وليس لها أي علم بالمعركة، وبهذا الشكل فقد ضبط إيقاعها الطموح، واستفرد بغزة وأمر جيش الدفاع الإسرائيلي بتطهيرها من البشر والشجر والحجر، مجيشا خلفه القيادات الأوروبية المنافقة، وساعيا لئلا تقوم لغزة قائمة، وليحقق نقلة نوعية ومنعرجا جديدا في تاريخ القضية الفلسطينية والمنطقة برمتها.
16/ لم يكن أمام حزب الله اللبناني إلا أحد خيارين، فإما أن يخرس تماما أمام هذا الواقع الخطير، وحينها ستسقط شرعيته القائمة على قضية العداء لإسرائيل وهدف تحرير فلسطين -والتي اختطف من خلالها الدولة اللبنانية وحطم شعبها- أو أنه سيحفظ شرعيته من خلال ضربات ضرورية شكلية لا تحدث أي تغير في إيقاع المعركة ولا تخرج عن تفاهمات قواعد الاشتباك، وبنفس الوقت تحقق هدف الحفاظ على شرعيته ورواجه بين الشعوب العربية الجاهلة والمضللة.
17/ مرة أخرى، كما خدعت أمريكا إيران المخادعة، فقد قررت أن تغدر بذراعها الأقوى في المنطقة، بحيث تفكك ترسانته العسكرية وتمزق قوامه الفاعل، وتحفظه بشكل مشوه وضعيف، بحيث لا يقوى على فعل تخريبي إلا في حدود الساحة اللبنانية، وهذا ما كان، فتم قتل وكيل إيران الأهم في المنطقة حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، كما تم تدمير القدرة الصاروخية الرئيسية للحزب، وتدمير أماكن تخزين قدراته العسكرية سواء في لبنان أم في سورية.
18/ وخلال هذا المخاض تم أخذ القرار باستبعاد أكثر الوكلاء إخلاصا لإسرائيل وانضباطا مع الإدارة الأمريكية، الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وذلك بناء على عجزه الحقيقي وعدم قدرته على التجاوب مع الرؤية الأمريكية الجديدة في التعامل مع المشروع الإيراني وحزب الله، الأمر الذي دفع أمريكا للتفكير والتعجيل بإزالته، حيث لم يعد ضعفه مقبولا ولا عجزه مناسبا للمنعرج الجديد في المنطقة، فوجب التغيير.
19/ أدرك الصادقون في حركة حماس والجهاد بأنهم قد وقعوا بالفخ، وأنهم تورطوا في أمر أكبر منهم، لاسيما بعدما قتل الشهيد صالح العاروري -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا- مع حسن نصر الله في واقعتين منفصلتين قادتاه للخروج من لبنان، وذلك نتيجة فجوة حقيقية تبلورت بعدما اكتشف الشيخان الشهيدان صالح العاروري وإسماعيل هنية -في زيارتهما المشتركة الأولى بعد عملية 7 أكتوبر إلى طهران للقاء الخامنئي وطلب نجدته ونصرته ودخوله في المعركة- بأنهم قد وقعوا في الفخ، حين أخبرهما بأن هذا النصر المشرف يجب أن يكون من حظ حركة حماس منفردة، -وقد عبر العاروري فور خروجه من طهران عن أنه قد غسل يديه من إيران بعدما كان معولا عليها ومصدقا لخدعة وحدة الساحات- الأمر الذي انتهى لمقتل واغتيال العاروري في الضاحية الجنوبية، وذلك في الشقة التي حددها وقررها له الجهاز الأمني لحزب الله اللبناني.
20/ لقد قرأت إيران المشهد بوضوح، حيث رأت بأم عينها كيف بدأت الإدارة الأمريكية تتخلص من بعض شخصياتها وقادتها وتغتالهم بأيدي صهيونية على الأرض أو في السماء، فقتلت وزير خارجيتها عبد اللهيان، كما قتلت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وذلك باعتبارهما غير مناسبين للمرحلة القادمة، لاسيما بعدما فهمت تصوراتهما في لقاءات عمان.
21/ ورغم كل هذا النيل الأمريكي من إيران إلا أنها بقيت مصرة وجادة بإبداء حرصها الشديد للوصول إلى حل مع أمريكا، فقدمت قائد حركة حماس السياسي الشهيد إسماعيل هنية -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا – قربانا للإدارة الأمريكية ولإسرائيل لعلها ترضى، غير عابئة بقتل القيادات الفلسطينية الكبيرة في داخل غزة واحدا تلو الآخر.
22/ لم يستمع الأمريكيون ولا أداتهم التنفيذية إسرائيل لكل القيادات الفلسطينية السياسية والعسكرية، سواء في غزة أو الخارج أو حتى في سلطة رام الله، والذين أجمعوا بعد ثلاثة أسابيع من إطلاق عملية 7 من أكتوبر على هدف رئيسي كبير، وهو إيقاف معركة طوفان الأقصى، وأخذ ضمانات من أطراف دولية على موافقة اسرائيل الرافضة لإيقاف المعركة (الفرصة الجوهرة)، حيث استوعب جميع العقلاء أن الطوفان ليس طوفانا سيحرر الأقصى، وإنما هو طوفان أمريكي إسرائيلي يريد أن يجرف غزة وأهلها، كما سيجرف معها مدن الضفة الغربية وبقية فلسطين، ويهمش السلطة الفلسطينية في رام الله رغم كل تفاهماتها معه.
23/ وفيما تحركت الشعوب العربية والإسلامية لمناصرة القضية الفلسطينية متفاعلة مع أشكال الإبادة الجماعية التي تجري على أرض غزة بسلاح أمريكي فتاك وأيادي إسرائيلية منفذة وتأييد غربي منقطع النظير، تجمد النظام العربي الرسمي وبدا أن القيادات العربية الرسمية في مستوى متقدم من الجبن والخوف الشديد، حيث خاف كل منهم على أركان حكمه مدركا أن المسألة أكبر مما يبدو، وأن عملية 7 أكتوبر كانت فخا عظيما يقود لتغيير استراتيجي في فلسطين وعموم المنطقة العربية، حيث قد رفعت أمريكا العصا الغليظة، وأبدت استعدادها لتغييرات جوهرية قد تمس الأنظمة الوكيلة قبل غيرها، فانضبط الجميع في صورة شخص رعديد يبول في لباسه، وبات يقدم الطعام والغذاء والدواء للكيان الصهيوني وجنوده القتلة المجرمين دون حياء ولا تحسب من انتفاضات شعبية في وجهه، حيث أدرك أن المدحلة الأمريكية قد وصلت إلى المنطقة العربية لتهرس كل من لا يتجاوب معها، خارقة قواعد الاشتباك ومتجاوزة الضوابط والقواعد السياسية السابقة تجاه الجميع.
24/ لقد قام الكيان الصهيوني بدوره المطلوب على نحو منضبط ورفيع تجاه مطالب المشروع الأمريكي الجديد، متجاوزا كل المطالب الشعبية الإسرائيلية والضغوط المتعاظمة وحياه جنوده التي باتت رخيصة، لاسيما وقد تغافل الكيان المجرم عن إرادة ووعي منذ فجر السابع من أكتوبر 2023، حتى بدا أن الجهاز الأمني الإسرائيلي الأقوى في المنطقة العربية والإقليمية ضعيفا وهشا للدرجة التي أغرت رجالات القسام الأشاوس بابتلاع الطعم والتقدم نحو النهاية دون تحسب -وللشهادة يذكر أن القائد العسكري الأول لجهاز القسام الشهيد أبو خالد محمد الضيف -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا- قد فكر جديا يوم العملية وتحديدًا بحدود الساعة الخامسة فجرا، بإيقاف كامل العملية حين شعر أنه فخ من خلال رصده للإيقاع غير الطبيعي للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ولكنه قرر بعد تفكير مع من حوله بإمضاء المعركة متأثرين بفكرة قرب زوال إسرائيل- فيما كانت إسرائيل ومنذ مدة ليست بسيطة تجمع داتا ومعلومات كاملة عن عناصر القسام وقياداتها المهمة، وكذلك القيادات العاملة والمركزية في حزب الله، وعندما جاءت ساعة الصفر حيث وصلت حركة حماس وكتائبها إلى مرحلة اللاعودة، وارتبكت إيران ما بين روايتها المخادعة وشرعيتها المقاومة الكاذبة، وما بين ضبطها لجميع الساحات والتزامها وإلزامها لحزب الله بقواعد الاشتباك، حصلت المفاجأة المعدة سلفا، وقتلت إسرائيل جميع القيادات الرئيسية بضربة واحدة مفاجئة في لبنان أعقبتها بأخرى موجعة للحزب، وضربات متعددة ومتفرقة في غزة التي كانت قياداتها أكثر وعيا تجاه العدو الصهيوني المجرم والخبيث، فاستشهدت متفرقة ومتباعدة.
25/ وبالقدر الذي تكشفت فيه عملية 7 أكتوبر عن اهتراء وكذب إيران، كما تكشفت وظيفية حزب الله اللبناني كذراع إيراني خادم لسياسة التموضع والتوسع والتألق لمشروع ولي الفقيه الإيراني، بالقدر الذي تكشفت فيه المعركة عن صدق المجاهدين وصمود وصبر شعب فلسطين، وحيوية الشعوب العربية والمسلمة التي ترزخ تحت أنظمة وكيلة عن الحكومات العالمية الظالمة، والتي زرعت الكيان الصهيوني وجلبت قطعان اليهود ليكونوا وقودا وحطبا يجسد رؤية المشروع الصليبي الذي تقوده أمريكا ويرعاه الغرب.
26/ خلاصة القول أن عملية 7 أكتوبر جاءت على أرضية اتفاق سابق ورؤية مشتركة بين إيران وأذرعها وبين قيادة حركة حماس -التي سقطت في الفخ وأسقطت معها شعب فلسطين- حيث كان لكل طرف أهدافه ومنطلقاته المختلفة، وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه أمريكا لتغييرات استراتيجية في المنطقة، فقد وجدت فرصتها الكبرى في تلك العملية لتحدث طوفانا يغير أوضاع المنطقة مستعينة بمشروعها الإسرائيلي الذي تلقف العملية فخنس حتى وقعت الواقعة وسرت الكارثة، وكما خدعت إيران حركات المقاومة الفلسطينية التي دفعت ثمنا باهظا باغتيال قياداتها، كما دفع الشعب الفلسطيني ثمنا أكبر وأعلى في تدمير تاريخي لشعب فلسطين وإزاحته عن أرضه، وتراجع كبير للقضية الفلسطينية، فإن أمريكا قد خدعت إيران وقتلت بعض قياداتها غير المناسبة للمرحلة القادمة، وحجمت نفوذها، وذلك بعد أن قامت إيران بمهمتها خلال أربعة عقود فتتت خلالها شعوب ودول المنطقة لصالح أمريكا وإسرائيل، وتوجتها بتدمير ثورات الربيع العربي وسحق العراق وتفكيك مجتمعه وجيشه من قبل، وكذلك فعلت إسرائيل بحزب الله اللبناني، حيث غدرت به وقتلت قيادته ونسفت ترسانته العسكرية، مخالفة قواعد الاشتباك والاتفاقيات والتفاهمات السياسية والعسكرية غدرا، ليتحول الحزب من أسد في المنطقة إلى قط ذو مخالب تجرح على مستوى لبنان، والذي لا يزال له دور فاعل فيه.
27/ لقد خسرت القضية الفلسطينية وشعبها المسكين أيما خسارة، وذلك نتيجة تعويل حركاتها المقاومة على مشاريع الخصوم، ونتيجة عدم ضبط إيقاعها الجهادي الواجب ضمن قدراتها الذاتية مراعية أوضاع شعبها الذي يشكل ببقائه على الأرض وصموده التاريخي مادة وخامة النصر الحقيقية، ونتيجة لعدم بناء قنواتها الطبيعية مع عموم شعوب المنطقة العربية -وليست أنظمتها التي تسمى زورا عند المغرضين دولا سنية-.
ورغم كل ما حصل فإننا نؤمن بأن وعد الله حق وأن النصر قادم ومتحقق لا محالة، ولكن سنن الله لا مبدل لها، والله لا يصلح عمل المفسدين، الأمر الذي يوجب علينا إعادة رسم التصور الفلسطيني في مسار التغيير والتحرير، دون انفصال عن شعوب المنطقة العربية والإسلامية، ودون تعامي عن أوضاعها وأوجاعها، ودون قفز عن التحديات والمخاطر التي تواجهها حتى تتعافى وتتصحح أوضاعها، ودون حصر الصراع الفلسطيني العربي والإسلامي مع إسرائيل في شكله القتالي العسكري الواجب والمنضبط بما يحقق نتائج في صالح القضية، لا أن يكون أداؤه سببا في زيادة عذابات الشعوب وتراجع القضية، ولا أن يبني علاقاته وتحالفاته مع أعداء الأمة، غير مكترث بفجوات يصنعها تعريه وتبعده عن الأمة التي لن تتحرر فلسطين بغيرها، كما حررها من قبل أجدادها واستشهد على هذا الطريق آباؤها.
إن فلسطين تدفع ثمنا باهظا نتيجة الاحتلال القائم، والذي أقامه الغرب على أرضها المباركة، مستهدفا شعوب ودول المنطقة العربية والإسلامية، فهل ستكون حركات المقاومة الفلسطينية سببا في تخليصها من تلك العذابات بناء على قراءة واعية ومشاريع صائبة ومسددة؟ أم أنها ستستمر في مسار خارج عن السكة المؤدية للتحرير الأمر الذي يضاعف عذابات شعب فلسطين ويسبب تراجعا مدويا ومتكررا في القضية الفلسطينية.