مع المفكر محمد جابر الأنصاري.. «هل كانوا عمالقة؟» بين النقد والمجاملة
هو كتاب للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: «هل كانوا عمالقة؟» أصدره عام 1980، وقد تحرر الكاتب من صفات المجاملة التي تَضُرُّ ولا تنفع، فقد طرح الدكتور جابر الأنصاري رؤاه النقدية بصراحة تامة مسّت كبار الأدباء والمشاهير وكذلك الزعماء السياسيين في الوطن العربي، وحرص على إثارة قضايا فكرية من أجل تسخين مناخ العقل الجماعي الرّاكد وبثّ الحركة في خلاياه، وطرح في كتابه أسئلة هامة وجريئة، ليس من أجل التهجم عليهم كما يتبادر إلى الذهن أو التنكر لعطاياهم وإنما لمعرفة الحقيقة التي هي ضالة الإنسان المثقف، لقد ذكر الأنصاري ثلاثة أسئلة ذكر فيها ثلاثة أسماء مشهورة.
– قال في السؤال الأول:
قيل لنا أن جمال الدين الأفغاني هو حكيم الشرق وباعث نهضته وفيلسوفها، ولكن اين فلسفة جمال الدين الأفغاني؟ اين حلوله الناجعة التي قدمها؟ لماذا لم تقم النهضة العربية على أساس وطيد طالما بدأت بأفكار فيلسوف مثله؟ من يدلي على مؤلفاته الفلسفية غير رسالة «الرد على الدهريين» التي لا تحوي من الفلسفة شيئا.
– وقال في السؤال الثاني:
قيل لنا أن أحمد شوقي أمير الشعراء وأمير البيان ومجدد شعرنا العربي، ولم يتقبل الجميع ما قاله العقاد وميخائيل نُعَيْمَة في شعره، وقال في حديثه عن الشوقيات أن معظمها يشبه افتتاح الجرائد اليومية في أيامنا هذه سلسلة طويلة من المرثيات، معظمها في أشخاص من أصدقائه ومعارفه نسيهم التاريخ، وسلسلة من المدائح وسلسلة من المفاخر، فما مصير أبنائنا إذا قلنا لهم هذا أمير شعركم الحديث؟
– وقال في السؤال الثالث:
هل أن جبران خليل جبران هو بتلك العبقرية والعظمة التي تحاول أن تقيم له الدراسات والأبحاث اللبنانية المتراكمة منذ مطلع القرن العشرين؟ أهو قصاص بارع؟ أهو أديب مشرق البيان حقا؟ أهو شاعر في غير قصيدة واحدة طويلة اسمها المواكب؟ أهو مفكر فيلسوف، أليس هو في التحليل النهائي كاتبُ مقالة ذاتية تمزج بين البكاء والوعظ.؟
قد يبدو محقا، لأن المجاملة تضر ولا تنفع ولكن يمكن القول أيضا أن النقد المفرط أو بالأحرى النقد اللاذع يضر ولا ينفع، لأنه نقد سلبي لا يخدم الفكرة ولا يخدم الحقيقة ويقضي على كل الأعمال والإنجازات، وقد يُوَلِّدُ الكراهية والعدائية وحُبُّ الانتقام بين الكتاب والمثقفين، قد يؤدي إلى التدخل في الحريات الفردية والمساس بالحياة الشخصية للإنسان، بل قد يشعل حربا ليس لها نهاية، فكل ما يكتب كما يقول البعض يدخل في إطار أدب التقليد، وهو من أشد أنواع الأمراض الفكرية شيوعا وانتشارا، فهل نحتاج إذن إلى «الوسطية» في كتاباتنا وطرح أفكارنا ونقدنا للأخر؟ وكما يقال: «إرضاء الناس غاية لا تدرك» والحقيقة تكاد المجاملة أن تتحول إلى كفر.
فبعض الناس لا تحب من ينتقدهم، أو يظهر لهم عيوبهم وإن انتقدتهم في فكرة ما، ينقلبون عليك بمجرد أن تخالفهم الرأي فتصبح أنت العدوّ اللدود في نظرهم وأنت الخائن وأنك عديم الكفاءة و..و..و. الخ، هؤلاء اعتادوا على من يجاملهم ويضعهم في مرتبة العظماء وكأنهم صنعوا الحياة ولهم الفضل في بقاءك حيا، ليس كل ما يكتبه الإنسان أو يقوله قرآن منزه، فالإنسان بشر ومعرض للأخطاء وقد يتعرض للنقد، لأن لكلّ رؤيته للأشياء والقضايا التي تطرح، والزاوية التي يعالج بها هذه القضايا في زمن التنوير، حتى الكتب المقدسة تعرضت للنقد، أن ينتقدك الآخر لا يعني أنه ضدك أو يريد إحباط معنوياتك، الفرق بين النقد والمجاملة هو أن هذه الأخيرة وسيلة للوصول إلى هدف ما وتحقيق غرض ما منكَ، قد نمارس هذا الأسلوب من باب تشجيع الآخر على العمل و النجاح، لكن أن تتحول المجاملة الى عادة لكسب رضى شخص ما حتى لو كان مخطئا لا لشيء إلا لأن له نفوذ ولأننا نريد من ورائها الوصول إلى غايتنا، فهذا سلوك غير واع ولا يـأتي من إنسان عاقل.
فالمثقف لا يجامل، والمفكر لا يجامل، والناقد لا يجامل، والإعلامي لا يجامل، والثّوري لا يجامل، والمناضل لا يجامل، لكن رجل السياسة يجاملُ، والكاتب الحر وجب عليه أن يتحرر من أفة المجاملة، لأن المجاملة المبالغ فيها تتحول إلى نفاق و كذب على الناس بل تؤدي بالمُجَامِلِ (المَدَّاح) إلى أن يكذب على نفسه ويصدق الكذبة فيحولها إلى حقيقة، ويصور الشخص الذي يجامله على أنه شخص صالح، والمجاملة المبالغ فيها أي المُفْرَطَة تقود الإنسان إلى العبودية وتجعله فاقد الإرادة والعزيمة وقد تُجَرِّدُهُ من كبريائه، وتضع الشخص الذي يجامله في مرتبة الإله، و تضع على رأسه تاج العظمة، و كأنه الوحيد الذي خلّص البشرية وأنقذ بعبقريته الأمّة من الهلاك، ما وقع في الجزائر وفي البلاد العربية من فساد سببه الإفراط في المجاملة ( الرئيس فلان، الوزير فلان، الأديب فلان فعل كذا و كذا..) وتحول هؤلاء إلى «عمالقة» وكأن ما قاموا به معجزة من المعجزات الإلهية التي مدها الله لأنبيائه ورسله، في الوقت الذي نرى أناسا ضحوا من أجل أوطانهم وقدموا أعمالا جليلة، آثارها ما تزال حيّة، ولكنهم «منسيون»، لا يذكر اسمهم ولا أعمالهم. (مجرد وجهة نظر)