صدر حديثا للأستاذ الدكتور محمود زايد، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر، كتاب “تاريخ آسيا الحديث والمعاصر”، ليضاف لنحو ثلاثين مؤلفًا له، عن قضايا سياسية وثقافية عالمية، نالت منطقة الشرق الأوسط وفيها القضية الكردية الجزء الأكبر من اهتماماته.
يجيب الدكتور محمود زايد عبر كتابه الجديد؛ الصادر عن دار التعليم الجامعي للنشر والتوزيع، عن تساؤل كبير مفاده: هل سيطلق على القرن الحادي والعشرين «القرن الآسيوي» مثلما كان القرن التاسع عشر «قرنًا بريطانيًا»، والقرن العشرين «قرنًا أمريكيًا»؟، بمعنى هل ستكون الهيمنة الاقتصادية والسياسية فيه ستكون للدول الآسيوية الكبرى إذا ما استمر معدل نموها الاقتصادي والتكنولوجي على الوتيرة نفسها التي سارت عليه خلال الربع الأول من هذا القرن؟.
يقول زايد : إن آسيا لديها من العوامل التي تجعلها الأكثر حيويةً وتأثيرًا في السياسة العالمية؛ جيوسياسيًّا، واقتصاديًّا، وديموغرافيًّا. ومنها: امتلاكها موارد طبيعية هائلة، بما في ذلك النفط والغاز والمعادن، مما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في أسواق الطاقة العالمية بعد أن تمكنت من وسائل حسن استثمارها واستغلالها في مصالحها العليا، وهو ما جعلها ذات وزن اقتصادي عالمي كبير، وأمست بعض دولها كالصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية ذات دورٍ محوريّ في التجارة العالمية والاستثمارات الدولية، فالصين حاليًا ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتؤثر بشكل كبير على الأسواق العالمية.
ويضيف: من العوامل المهمة التي تتميز بها آسيا حجم نموها السكاني؛ إذ تعد موطنًا لأكثر من 60% من سكان العالم، مما يجعلها سوقًا استهلاكية ضخمة ومصدرًا للقوى العاملة. هذا بالإضافة إلى التطور التكنولوجي السريع الذي تشهده آسيا، خاصة في مجالات: الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والتصنيع المتقدم؛ فدول مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة باتت مراكز عالمية للابتكار التكنولوجي، وبها بعض أكبر الشركات التكنولوجية في العالم.
ويؤكد المؤلف أن من عوامل قوة آسيا أيضًا الدور الكبير لبعض دولها في المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية؛ فالصين وروسيا (بجزئها الآسيوي الكبير) تتمتعان بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، مما يمنحهما تأثيرًا كبيرًا على القرارات الدولية، وهو ما تابعنا نتائجه في الكثير من الحروب والنزاعات العالمية، كما في أوكرانيا وتايوان وإيران وسوريا وغيرها. كما كوّنت بعض دول آسيا منظمات إقليمية مهمة تؤدي دورًا كبيرًا في تعزيز التعاون الإقليمي والتأثير على السياسة العالمية، مثل: مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO). بالإضافة إلى أن آسيا تشهد حاليًا تطورًا في الاتفاقيات التجارية الإقليمية، مثل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، ذات التأثير الكبير على واقع التجارة العالمية ومستقبلها.
كما تتميز القارة الأسيوية بالتنوع الديني والثقافي؛ فهي مهدٌ للعديد من الحضارات والديانات الكبرى، مثل الإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية والكونفوشيوسية، مما يعطيها تأثيرًا ثقافيًا ودينيًا كبيرًا على مستوى العالم في حال حسن استثماره في التعاون والتكامل الإنساني. ومؤخرًا قطعت بعض الدول الآسيوية شوطًا كبيرًا في الثقافة والدبلوماسية الناعمة من خلال السينما والموسيقى والأدب، كما في الهند وكوريا الجنوبية وغيرها، بما يؤثر بشكل متزايد على الثقافة العالمية، وتعزز من نفوذها العالمي من نوافذ ما يسمى بـ «القوة الناعمة- Soft Power».
ويلفت زايد : على الجانب الآخر، فإن آسيا مسرح للعديد من النزاعات الجيوسياسية التي تؤثر على الاستقرار العالمي، مثل التوترات في بحر الصين الجنوبي، والصراع بين الهند وباكستان، والأزمات في الشرق الأوسط. فالصين والهند تتنافسان على النفوذ الإقليمي والعالمي، مما يؤثر على التحالفات الدولية والسياسات العالمية. كما تواجه آسيا العديد من التحديات العالمية، مثل: تغير المناخ، والأمن الغذائي، والأوبئة، والتي تتطلب تعاونًا دوليًا لحلها بسبب حجم الانبعاثات الكبيرة من الغازات الدفيئة فيها.
ويرى زايد؛ أن آسيا ليست مركزًا للنمو الاقتصادي والتكنولوجي العالمي الكبير فحسب، وإنما هي أيضًا منطقة ذات تأثير جيوسياسي كبير يجعلها لاعبًا رئيسيًا في تشكيل السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين؛ موضحا “شاهدنا أن التنامي الكبير للعديد من الدول الأسيوية يسعى لخلق وإيجاد سياسة عالمية جديدة مختلفة عما كانت عليه في السابق، كنوع من المناطحة القوية للدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وتهشيم سيطرتها لعقود في صناعة القرار العالمي وتسييره وفق مصالحها ونفوذها البراجماتي، الأمر الذي عبر عنه خبراء أمريكيون في أواخر عام 2024م بأن النفوذ الأمريكي في آسيا يتأكل وبات يشكل خطرًا استراتيجيًّا كبيرًا عليها أمام التنين الصيني والدب الروسي والنمور الأسيوية”.
وبوجهة نظر المؤرخ الكبير، لا يتوقف الأمر على سعي الآسيويين لتقليص النفوذ الغربي في آسيا فحسب، وإنما مزاحمته أيضًا بشكل كبير خارج القارة الأسيوية، وهو ما بدى واضحًا في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وشرق أوروبا، ومتمثل في العديد من المظاهر، كحجم الاستثمارات الكبيرة، واتفاقيات الشراكة والتعاون المجالات الاقتصادية والعسكرية والأمنية وغيرها.
يقدم الدكتور محمود زايد كتابه الجديد مستهدفا الوقوف على المرجعية التاريخية للقارة الآسيوية بما يُجَلّي واقعها السياسي والاقتصادي والتقني، وهو ما مكّننا من رسم بعض السيناريوهات المستقبلية لهذه القارة، ومدى قدرتها في التحكم صناعة القرار العالمي.
يضم الكتاب مجموعة من الموضوعات المهمة في اثني عشر فصلاً، بُدِأت بنبذة عن جغرافية آسيا واقتصاداتها وسكانها وأديانها من حيث كونها من الفواعل التي تتميز بها آسيا للتأثير على السياسة العالمية. ثم رصدٌ الكتاب دوافع الغرب في احتلال آسيا للسيطرة عليها ونهب خيراتها وثرواتها منذ بدايات العصر الحديث حتى نجح الأسيويون في التحرر والاستقلال. ثم يتطرق الكتاب لقضايا بعض الدول الأسيوية، على رأسها إيران كواحدة من أعقد دوائر التنافس الغربي الأسيوي ومدى وظيفيتها كدولة في المشاريع الغربية الجديدة لآسيا ومنطقة الشرق الأوسط.
ويشتمل الكتاب أيضًا على الحديث العلاقات الهندية الباكستانية والكرة الكشميرية بينهما من خلال التغازلات البارودية وتوسيع نطاق المفاعلات النووية. كما مايز الكتاب بين قضيتي تيمور الشرقية والقضية الكردية والموقف الدولي منهما، إذ استقلت الأولى ولا تزال الثانية ترزح تحت الاحتلال في الحدود السياسية لكل من العراق وتركيا وسوريا وإيران، مبيّنين أسباب الرفض الدولي لقيام دولة كردستان حتى الآن، ومحاولات إفشال جعل كردستان إضافة إيجابية للمنطقة ليس خصمًا لها.
يناقش الكتاب أيضًا؛ بعض النزاعات الدولية في القارة الأسيوية وكيف أن العامل الغربي وراء تعميق هذا النزاع، لاسيما النزاع الأذربيجاني الأرمني حول “قرا داغ” ، والنزاع الصيني التايواني، والنزاع بين الكوريتين الشمالية والجنوبية.
ومن النقاط المهمة التي يقف عليها الكتاب فلسفة الأحلاف الدولية في آسيا وأثرها على أوضاع دولها الداخلية وعلاقاتها البينية داخل القارة وخارجها لنفهم محددات تطورات التنافسات والنزاعات الدولية في العالم حاليًا والتي أضحت بعض دول آسيا من أقطابها. إلى غير ذلك من القضايا التي يتعرض لها الكتاب، مركزا على الموقف الدولي إقليميًّا ودوليًّا وأثره على كل قضية وكل نزاع؛ لفهم كيف تُساس الأمور وفق مصالح كل دولة، لنصل في النهاية إلى أن السياسة حالة متغيرة باستمرار، وأن قاعدة العلاقات بين الدول «أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة»، فحيثما وُجدت المصلحة ارتبط بها الموقف والقرار، حتى نقف على بعض السيناريوهات المستقبلية لآسيا، وهل سيطلق على القرن الحالي «القرن الآسيوي»؟ أم ستنجح العقبات والعراقيل الغربية (الأمريكية والأوروبية) التي تضعها أمام الأسيويين لحظة بعد أخرى؟.
