التعامل مع السياسة خاصة في واقعنا المعاصر مع ضعف المسلمين وندرة اجتهادات العلماء الثقات في فتاوى الواقع المعاصر يحدث صدمة لغالب الإسلاميين تجعل ثوابتهم تترنح
ويتخبطون فكريا وعقديا بل ويهرولون للسقوط مع الواقع ظنا أن ذلك ذكاءً سياسيا
فيسقطون إلا ما رحم ربى
وقد مرت تجارب كثيرة للإسلامين في مصر وتونس والمغرب والجزائر وقعت فيها إشكاليات واجتهادات متفاوتة وأخطاء متفاوتة
ونجاح محدود جدا بحسب كل تجربة
وقد نتج عن تلك التجارب انقلابات وسقوط متفاوت الشكل والوقائع
وتضحيات وضحايا
ويأس
وانقلابات فكرية متنوعة
وقد انتهت تلك التجارب ولا عودة إلا أن يشاء الله
وقد ظهرت التجربة السورية الآن بشكل جديد عما سبق من تجارب
فكل ما سبق كانت ريادته لجماعة الاخوان بأشكال مختلفة وخاضع لمدرسة الاخوان الفكرية
أما التجربة السورية فهي مختلفة النشأة والفكر والواقع وتحسب على التيار السلفي الجهادي تقريبا
وقد ظهرت في التجربة السورية تفاعلات سياسية
استفزت الكثير من الإسلاميين
وصفق لها البعض على أنها تطور سياسي واقعي!
ووقف البعض حيارى
واحتدم الجدل والخلاف
وقد استوقفني ما جاء في كتاب اعلام الموقعين عن رب العالمين للأمام ابن القيم رحمه الله
فوجدت فيه هداية للحيارى
ورؤية للعاقلين
وحكمة للإسلاميين
وضبط للمنفلتين
وهو كتاب عظيم فريد جمعَ فيه بين الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة وتاريخ التشريع والسياسة الشرعية
وقد ذكر ابن القيم في باب العمل بالسياسة
الآتي:
مناظرة جرت بين أبي الوفاء ابن عقيل وبين بعض الفقهاء،
فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام،
وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع،
فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي ;
فإن أردت بقولك “لا سياسة إلا ما وافق الشرع” أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح،
وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ;
فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير
ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق علي كرم الله وجهه الزنادقة في الأخاديد، ونفي عمر نصر بن حجاج …
ثم كتب ابن القيم كلاما أنفس من الدرر وأغلى من كل جواهر الفقه والفكر تعليقا على تلك المناظرة
فقال: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع
والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها
فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم ;
فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل، وفساد عريض، وتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه،
وأفرط في طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله ;
فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل،
وأسفر صبحه بأي طريق كان ; فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره،
والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر،
بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصودة إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها.
والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها،
وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها،
وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟
ولا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة،
بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عدلا فهي من الشرع
ثم كتب ابن القيم بكل قوة تنبيها للمسلمين فقال: وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة
كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل،
بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين:
صحيح، وفاسد… انتهى
كلام ابن القيم لا يحتاج تعليق فهو السماء في الحكمة
لكن يحتاج إلى إسقاط حكيم بتقوى لله في الوقائع المعاصرة
وهذه هي المشكلة
فغالب العلماء بعيدين عن الواقع المعاصر أو مقيدين بقيود نظم الحكم أو مصالحهم الخاصة
والساحة مفتوحة لاجتهادات وشطحات مختلفة
وبعض المثقفين والسياسيين ظنوا أنهم أصحاب الحق فشطحوا في التسهيلات والانفلات
وكل ذلك يستدعى أن مثلا: علماء سوريا المخلصين الصادقين يجتمعوا لقدح زناد اجتهادهم ولا يتركوا إدارة سوريا الجديدة تفعل ما تشاء
والا شطحت
واستبدت
وطغت
وسقطت لا قدر الله
فكلمة الحق أمانة ومسؤولية
خاصة أنهم لا يوجد على علماء سوريا قيود
فعليهم أن يقدموا رأيا فقهيا متوازنا معاصرا تستفيد منه سوريا والحالة الاسلامية عامة
وإلا زلت الأقدام وضاعت تضحيات شهداء، وانكسرت آمال وفرح الأعداء ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم أصلح أحوال المسلمين