صدر كتاب “اللامنتيجي” للمفكر البريطاني كولن ولسون (1931 – 2013)، بترجمة أنيس زكي حسن عن دار العلم للملايين – بيروت، وهو امتداد لمشروعه الفكري الذي بدأه بكتابه الشهير “اللامنتمي”. وإذا كان “اللامنتمي” قد شكّل صدمة فكرية في خمسينيات القرن العشرين، فإن “اللامنتيجي” جاء ليكمل الصورة عبر الغوص في أمراض النفس البشرية الحديثة، وكشف مأزق الإنسان المعاصر الذي فقد الحافز والمعنى.
بين اللامنتمي واللامنتيجي: الفارق الجوهري
اللامنتمي: شخصية متمرّدة، ترى نفسها غريبة عن المجتمع، تعيش في حالة قلق وجودي لأنها لا تجد ذاتها في القيم السائدة. اللامنتمي يرفض الزيف ويبحث عن معنى أعمق للحياة، حتى وإن عاش في عزلة وصراع.
اللامنتيجي: شخصية خاملة، لا تمرد فيها ولا احتجاج. يعيش بلا غاية، بلا إرادة، أسير الروتين والفراغ الداخلي، فاقداً للحافز على الفعل والإبداع. إذا كان اللامنتمي ثائراً على القيم، فإن اللامنتيجي غارق في اللامبالاة، لا يجد ما يقاتل من أجله.
بهذا يقدّم ولسون انتقالاً فلسفياً: من نقد المجتمع الذي يُنتج الغربة (اللامنتمي)، إلى نقد الفرد الذي ينهار داخلياً ويستسلم للعدم (اللامنتيجي).
مضامين الكتاب
تحليل عميق لـ الأمراض النفسية المعاصرة: القلق، الاكتئاب، فقدان الدافع، الاغتراب.
ربط بين الأدب والفلسفة والتحليل النفسي، مستشهداً بدوستويفسكي، كافكا، وكامو.
نقد الحداثة الغربية بوصفها ولّدت إنساناً استهلاكياً فارغاً، يعيش كآلة بلا روح.
تأكيد أن الخلاص لا يكون في الانسحاب أو السلبية، بل عبر استعادة الوعي الوجودي، وتحويل القلق إلى طاقة إيجابية تفتح أفقاً للمعنى.
اقتباسات لافتة
“المشكلة الكبرى للإنسان الحديث ليست الفقر ولا المرض، بل الشعور بأن لا شيء يستحق أن يُعاش من أجله.”
“اللامنتيجي لا يعاني نقصاً في القدرات، بل عجزاً في الرغبة والمعنى.”
أهمية الكتاب
امتداد فكري لكتاب “اللامنتمي”، لكنه أعمق في رصد المرض النفسي والاجتماعي للقرن العشرين.
عربياً، وفّر مادة غنية للنقاش في زمن تصاعدت فيه أسئلة الهوية والتغريب والحداثة.
أبرز قيمة الأدب والفلسفة كمرآة للأزمات النفسية، لا مجرد انعكاس للخيال أو الفكر.
الاستقبال العربي
لاقى كتابا ولسون، “اللامنتمي” و”اللامنتيجي”، اهتماماً واسعاً في الأوساط الثقافية العربية، خصوصاً في الستينيات والسبعينيات، حيث وجد فيه المثقفون العرب مرآة لواقعهم المأزوم بين التحديث السطحي والفراغ الروحي. قرأه بعض النقاد في سياق الاغتراب الثقافي العربي، ورأوا أن شخصية “اللامنتيجي” أقرب إلى جيلٍ يعيش أزمات البطالة، القمع السياسي، وفقدان الأفق. لقد شكّلت أعمال ولسون مادة خصبة للحوار حول الوجودية، الحرية، والبحث عن المعنى.
كتب عربية مشابهة
يمكن القول إن الفكر العربي عرف أعمالاً موازية أو مقاربة في جوهرها، مثل:
“الاغتراب والحرية” لعبد الرحمن بدوي: دراسة فلسفية عن العزلة الوجودية.
“الأيام” لطه حسين: سيرة تعكس صراع الفرد مع المجتمع والبحث عن ذاته.
“في الشعر الجاهلي” لطه حسين أيضاً، بوصفه نقداً للقيم السائدة ومساءلة للتراث.
“حصاد الهشيم” للعقاد: يطرح رؤية ناقدة لحالة الفكر العربي.
“الإنسان المهدور” لمصطفى حجازي: تحليل نفسي واجتماعي للإنسان العربي المقهور، قريب في مضمونه من فكرة “اللامنتيجي”.
كولن ولسون: الفيلسوف المتمرد
ولد ولسون عام 1931 في بريطانيا، وذاع صيته منذ كتابه الأول “اللامنتمي” الذي نشره وهو في الرابعة والعشرين من عمره. كتب في الفلسفة، علم النفس، الأدب، وحتى في عوالم الجريمة والظواهر الغريبة. ظل يحمل لقب “الفيلسوف المتمرد” لأنه رفض التقاليد الفكرية السائدة، وسعى دائماً إلى إعادة تعريف الإنسان في مواجهة قلقه الوجودي.
اللا منتمي
“اللامنتمي” هو صوت احتجاج الفرد على عالم زائف، أما “اللامنتيجي” فهو صرخة التحذير من الإنسان الذي تلاشى داخلياً وفقد الرغبة في الحياة. وإذا كان الأول يمثل مأساة الباحث عن المعنى، فإن الثاني يجسد مأساة من استسلم للعدم.
وبين الاثنين، رسم كولن ولسون خريطة الاغتراب الإنساني في القرن العشرين، مقدماً درساً لا يزال صالحاً لزمننا الحالي: أن الإنسان لا ينجو إلا بالمعنى، ولا يحيا إلا بالوعي والهدف.