في زمن تتغير فيه موازين القوى وتتحول فيه الحروب من صراع الدول إلى صفقات مربحة، يطل الكاتب والباحث الأمريكي شون ماكفت بكتابه المرتزقة الجدد، كاشفاً النقاب عن أحد أخطر التحولات في تاريخ الصراعات المعاصرة: صعود الشركات العسكرية الخاصة، وتحول القتال إلى تجارة يديرها المرتزقة لمصلحة من يدفع أكثر.
الكتاب لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يطرح أسئلة عميقة حول معنى السيادة، والأخلاق، والقانون الدولي في عصر الحرب المؤجّرة.
مضمون الكتاب وأفكاره الرئيسية
يتناول ماكفت عالم “الجيوش المؤجرة”، موضحاً أن المرتزقة لم يعودوا مجرد “جنود حظ” ينتقلون من حرب إلى أخرى، بل تحولوا إلى شركات عابرة للحدود تقدم خدماتها للحكومات، والمنظمات الدولية، وحتى للشركات الكبرى. هذه الشركات تمتلك قدرات عسكرية متطورة، وأجهزة مراقبة، وخطط لوجستية تضاهي جيوش الدول.
ويؤكد المؤلف أن هذا التحول يعيد تعريف الحرب ذاتها: لم تعد مجرد مواجهة بين دول ذات سيادة، بل أصبحت سلعة تُباع وتشترى في سوق عالمي للدم، حيث تتحكم المصالح الاقتصادية والسياسية في مصير الشعوب.
أبرز المحاور والفصول
العودة إلى التاريخ: مقارنة بين مرتزقة العصور الوسطى والمرتزقة المعاصرين الأكثر خطورة.
الحروب بالوكالة: كيف تستعين الدول بالمرتزقة لتجنب التبعات القانونية والسياسية.
سوق الدم العالمي: آليات التجنيد والصفقات والعقود المظلمة التي تربط الحكومات بالشركات العسكرية الخاصة.
حروب الشركات: دراسة معمقة لشركات كبرى مثل “بلاك ووتر” ودورها في العراق وأفغانستان.
مستقبل الحروب: توقعات بانتشار الظاهرة حتى حد استئجار جيوش كاملة لتحل محل الجيوش النظامية.
أهمية الكتاب
تكمن أهمية المرتزقة الجدد في أنه يتجاوز السرد العسكري إلى البعد السياسي والأخلاقي. فهو يحذر من خصخصة الحرب وتحويلها إلى مشروع تجاري، بما يهدد السيادة الوطنية ويضعف سلطة القانون الدولي. كما أنه يفتح باباً للنقاش العربي حول صراعات استعانت فيها بعض الأطراف بقوات أجنبية أو مرتزقة، ما يجعل الظاهرة أقرب إلى واقعنا من كونها مجرد تحليل بعيد.
المؤلف: شون ماكفت
شون ماكفت ضابط سابق في الجيش الأمريكي، خدم في مهام ميدانية ثم عمل في شركات عسكرية خاصة، وهو ما منحه خبرة عملية مباشرة جعلت كتاباته أكثر دقة وجرأة. بعد ذلك اتجه إلى البحث الأكاديمي والتأليف، فأصدر عدة كتب في الاستراتيجيا والحروب الحديثة، أبرزها فن الحرب الجديد. ويعد اليوم من أبرز الأصوات التحليلية في قضايا الأمن الدولي.
البعد السياسي والفكري
يرى ماكفت أن صعود المرتزقة ليس معزولاً عن روح العصر النيوليبرالي، حيث جرى خصخصة كل شيء، من الصحة والتعليم إلى الأمن والحرب. ويحذر من أننا نتجه إلى “إقطاع جديد” تتحكم فيه الشركات الخاصة بمسارات الحروب، كما تتحكم الأسواق المالية بمصائر الاقتصاد.
مقارنة بكتب عربية مشابهة
رغم ندرة المؤلفات العربية المتخصصة في ظاهرة “المرتزقة الجدد”، إلا أن بعض الكتب اقتربت من الموضوع بشكل أو بآخر:
“الحروب الجديدة” لعزمي بشارة الذي يناقش تحولات الحرب في عصر العولمة، بما فيها دور الشركات والقوى غير النظامية.
“النظام الدولي الجديد والحرب على العراق” الذي رصد جانباً من نشاط الشركات الأمنية بعد الغزو الأمريكي.
كما تناولت بعض الدراسات الأكاديمية في مراكز البحوث العربية قضية “بلاك ووتر” ودور المرتزقة في تفتيت الدول.
هذه المقارنات تكشف أن الكتاب الغربي يتفوق في تفصيله ودقته، بينما ما زالت الساحة العربية بحاجة إلى مؤلفات توثق تجاربنا المحلية في التعامل مع المرتزقة، سواء في أفريقيا أو الشرق الأوسط.
انعكاسات الظاهرة على الأمن العربي
تمثل ظاهرة المرتزقة تحدياً خطيراً للأمن العربي، إذ شهدت بعض ساحات الصراع في المنطقة – من ليبيا إلى اليمن وسوريا – مشاركة مباشرة لمرتزقة أجانب. هذا الواقع يضعف من قدرة الدول على التحكم في مصائرها، ويجعل القرار العسكري رهينة قوى خارجية تبحث عن المال أكثر من الاستقرار. كما أن غياب الضوابط القانونية يجعل من الصعب ملاحقة هذه الشركات، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام مزيد من الانتهاكات وتهديد وحدة الدول العربية الهشة.
المرتزقة الجدد
المرتزقة الجدد لا يكتفي بكشف عالم المرتزقة، بل يضع القارئ أمام سؤال مصيري: إذا كانت الحروب تُشترى وتباع، فمن يملك غداً قرار السلم والحرب؟ إنه كتاب يضيء زوايا مظلمة في حاضرنا، ويكشف عن مستقبل قد تكون فيه البنادق ملكاً للشركات لا للدول.
إن هذا الكتاب ليس مجرد دراسة في شؤون الجيوش المستأجرة، بل هو جرس إنذار يقرع في زمن مضطرب؛ زمن قد تصبح فيه أرواح البشر أرقاماً في دفاتر الحسابات، وتغدو ميادين القتال أسواقاً تعرض فيها البنادق للإيجار. إننا أمام نصّ يطالبنا بالتأمل، واليقظة، وإعادة التفكير: هل نسلم مفاتيح الحرب والسلم لأسواق المال، أم نعيد للحروب – إن وقعت – حدها الأخلاقي والإنساني؟