في زمنٍ ضاع فيه المعنى بين الرتبة والبندقية، وبين الجيش والعقيدة، وبين النظام والحق؛ تنهض الأسئلة الكبرى من تحت الرماد:
هل أصبحت الجيوش دروعًا للأنظمة لا للأوطان؟
وهل بقيت الكرامة في ثكناتٍ صُمّمت لإطفاء الحريق لا إشعال الثورة؟
أم أن الأمة حين تختنق، تنفجر من داخلها، من أعماق شعبها، من قاع عشائرها، من وجع نسائها وشهدائها؟
هذا التقرير لا يسرد فقط قصة انقلاب تركيا، ولا مؤامرة السويداء فحسب، بل يعيد تركيب معادلة اختُطفت منذ قرنين، حين جُرّدت الشعوب من سلاحها، وتمّ “تصنيع” الجيوش لتخدم الحاكم لا الحق، وتنفّذ الأوامر لا الأقدار.
من يحمي الأمة… حين تسقط البنادق؟
تركيا 2016: حين خرج الشعب ليحرس الدولة
في مساء 15 يوليو 2016م، بدا كل شيء يسير وفق “السيناريو المألوف” لانقلابات الشرق:
بيان من الجيش، وتمركز دبابات، وقطع قنوات، وإعلان الأحكام العرفية.
لكن ما لم يُحسب، أن الشعب التركي — بكل طوائفه من الرجال والنساء، والمتبرجات والمحجبات، والعلمانيين والإسلاميين — نزل إلى الشوارع، لا بأمر حزب، ولا بخطة مخابرات، بل بوحيٍ من فطرةٍ تشمُّ رائحة الموت عند أول رصاصة.
في شهادة الصحفي البريطاني روبرت فيسك،. قال عن تلك الليلة:
“ما حدث في تركيا لم يكن مجرد فشل انقلاب… لقد سقطت فيه فكرة أن الشعوب لا تقاوم.”
كان المشهد غير مسبوق: الجيش ينتكس، والإيمان ينتصر.
في (ساحة تقسيم)، وعلى الجسور، وفي محطات المترو، كانت تكبيرات الجموع تسبق طلقات الجنود، والصدور العارية تتحدى المركبات المدرعة.
كانت لحظة تقول: إن الشعب إذا نهض، عادت الدولة إلى أصحابها.
السويداء 2025: العشائر تجهض مشروع التقسيم
في الجنوب السوري، حيث تتشابك الأعراق والرايات، كانت السويداء تُدفع لتكون “جيبًا طائفيًا” معزولًا، على شاكلة جبل لبنان في القرن التاسع عشر، أو كردستان العراق بعد 2003م.
لكن المفاجأة جاءت من داخل الأرض، من شرفات البدو، ومن خيام العشائر، ومن بطون العرب الذين ما باعوا الأرض يومًا.
عشائر بني معروف، والعرب في محيط السويداء، رفعوا الصوت والسلاح في وجه مؤامرة الفدرلة والانفصال.
وفي اشتباكات سريعة، وأحلاف قبلية، تم وأد المخطط المدعوم إسرائيليًا وغربيًا.
بحسب تقرير مركز جسور للدراسات (2025):
“العشائر العربية كانت الحاجز الأخير أمام تفتيت الجنوب، وسقوط الهُوية.”
هذه ليست أول مرة تنقذ فيها العشائر الأمة.
في العراق، وفي الجزائر، وفي فلسطين، وفي بادية الشام… العشيرة هي التي كانت تظهر حين تسكت العاصمة، وتقاتل حين يهرب الجنرال.
محمد علي باشا: حين صُمّم الجيش كي لا يُقاتل
إذا عدنا إلى جذور المأساة، نصل إلى لحظة فاصلة في أوائل القرن التاسع عشر:
حين جاء محمد علي باشا، وقضى على المقاومة الشعبية، وأسس جيشًا نظاميًا مركزيًا، يُشبه جيش أوروبا… لكنه لا يشبه روح الأمة.
بحسب المؤرخ د. عبد العظيم رمضان في كتابه “الجيش المصري في القرن التاسع عشر”، فإن محمد علي “لم يشأ أن يُبقي للشعب أي دور مسلح، بل احتكر القوة في كيان مغلق، يخضع للتوجيه الكامل.”
وأضاف المؤرخ حسين مؤنس في “باشوات وسوبر باشوات”:
“أنشأ محمد علي جيشًا لا يعرف إلا الطاعة… وسقطت إرادة الأمة عند بوابة ثكناته.”
منذ تلك اللحظة، لم تُبنَ الجيوش لتنتصر، بل لتُنظم، وتُراقَب، وتُدجَّن.
وحين كان يُطلّ الجهاد، كانت البنادق تُوجَّه إلى صدور الشعوب، لا إلى صدور الأعداء.
الجيوش غير النظامية: حين يكون الجهاد هو التكوين
في كل منعطف مصيري، لم تنقذ الأمة جيوشها النظامية، بل جموع المجاهدين:
– في فلسطين، قاوم اللاجئون قبل أن تتحرك البنادق الرسمية.
– في الجزائر، كانت “جبهة التحرير الوطني” مؤلفة من فلاّحين وحرفيين لا يحملون رتبة.
– في البوسنة، كان أهل المساجد والقرى أول من رفع السلاح ضد المجازر.
– وفي لبنان، كانت المقاومة الإسلامية، لا الجيش، هي من حرر الجنوب.
كتب بنوا ميشان في كتابه “الجيش الفرنسي في الجزائر” مذهولًا:
“لم نُهزم أمام جيش، بل أمام فكرة، أمام جموع لا تتوقف عن القتال، ولا تتعب من الموت.”
أما غسان كنفاني، فكتب في “مقاومة في فلسطين”: “هذا الذي يحمل بندقيته دون أمرٍ من أحد، هو وحده الأمل الأخير لأمةٍ اعتادت النوم تحت أقدام العسكر.”
من يحمي الأمة… حين تُغمد البنادق؟
إن ما حدث في تركيا 2016م، وما تكرّر في السويداء 2025م، وما سبق في الجزائر وفلسطين والبوسنة، يفضح الأوهام المسلحة، ويؤكد:
أن البنادق وحدها لا تحمي الأوطان، وأن الجيوش النظامية ليست دائمًا الجواب،
وأن الأمة حين تُغمد البنادق، تصرخ الشعوب، وتنقذ ما تبقى من الشرف.
وأن الحارس الحقيقي للأمة ليس الجنرال، بل من لا يخاف أن يُقتل من أجلها.
من يحمل الإيمان لا الرتبة العسكرية.