في مسرحيته الشعرية الجليلة “دماء على ستار الكعبة”، يكتب فاروق جويدة بمداد الألم والدهشة، مسرحةً شعرية تستل الستار عن واحدة من أبشع مشاهد التاريخ الإسلامي: حادثة اقتحام الحرم المكي عام 1979، حين سفكت الدماء الطاهرة عند بيت الله الحرام.
المسرحية ليست مجرد إعادة تمثيل لحادث تاريخي، بل هي صرخة شعرية، وموقف فكري، وتأمل ديني، ومساءلة وجودية. وقد بلغت من القوة والصدق ما جعل الإمام الجليل الشيخ محمد متولي الشعراوي يحضر عرضها ويشيد ببلاغتها ورسالتها.
الفكرة العامة:
تمثل المسرحية وقفة ضمير أمام جريمة دنّست أقدس المقدسات، فشهد بيت الله الدماء تسيل على ستاره، على يد من تلبسوا رداء الطهر زورًا، مدّعين المهدوية والطهارة، وهم في الحقيقة حملة الخراب والفتنة.
يصرخ جويدة بقلمه:
“هل أصبحت مكة ساحة للدماء؟!
هل صارت الكعبة مسرحًا للجنون؟”
ليفضح جريمة الخوارج الجدد الذين سفكوا الدم باسم الدين.
أهم الفصول والمواقف:
1- المشهد الأول – النداء المقدس:
يفتتح المشهد بصوت المؤذن ينادي للصلاة، لكن سرعان ما يعلو صوت الرصاص، فيتوقف الأذان، وتبدأ الأسئلة الكبرى. يظهر صوت الضمير في كلمات تنبض بالعجز أمام الرعب:
“مات الأذان على الشفاه، وسكت صوت الله في قلب الحرم.”
2- المشهد الثاني – دماء في حضرة الطهر:
يتحول الحرم إلى محرقة. يتساءل البطل/الشاعر كيف سكتت السماء، وكيف تموت الطهارة في حضرة الله. يقول:
“هذا مقام الله… فكيف يذبح فيه عباده؟”
ويبرز الصراع بين الدين الحقيقي والدين المزيف.
3- المشهد الثالث – الحلم المستحيل:
يعرض فيه الشاعر حلم الأمة الإسلامية، حلم الوحدة والنقاء، ويقارن بين الماضي الطاهر والواقع المتصدع. يقول:
“كم حلمنا أن نعود كأمة… لكن الحلم مات في دمائنا.”
4- المشهد الأخير – تطهير الحرم:
تأتي النهاية بصلاة الغائب على الضمير، مع دعوة إلى صحوة دينية حقيقية، لا شعارًا زائفًا. يختم بقوله:
“سيبقى الحرم طاهراً… وإن خنقه العبيد.”
أهم وأجمل أشعار المسرحية:
في وصف الكعبة:
“يا بيت ربي… كم حملتَ من الدموعِ على الجدارْ
كم مرّ فوقك عاشقٌ
وذاب فيك كأنّه سحرُ النهارْ.”
في استنكار سفك الدم:
“هذا الحرامُ… فكيف ضجَّت في رباهُ النارُ؟
كيف ارتوى بالسيفِ طفلٌ كان يحلمُ بالنهار؟”
في صوت الضمير:
“الدين ليس العمامةَ والسيفْ
الدين قلبٌ إذا ضمّ جرحًا… نزفْ.”
في تأبين الضحايا:
“نم في سلامٍ يا أخي…
قد صارت الكعبةُ تبكي دمعها
وتئنُّ في صمتِ السنينْ…”
أهمية المسرحية:
1- جرأة الطرح: كسر جويدة حاجز الصمت ليعري الفتنة باسم الدين، في وقت كانت فيه الجريمة حديثًا مؤلمًا تخشى الأقلام الخوض فيه.
2- التوازن بين الدين والفن: استطاع جويدة أن يكتب نصًا شعريًا بالغ الجمال، دون أن يسقط في الابتذال أو التخويف، جامعًا بين خشوع المكان وهيبة الفن.
3- الحضور الفكري والديني: حضور الشيخ الشعراوي لعرض المسرحية دليل على عمقها الديني، وشرعيتها في كشف الزيف باسم الدين، وهو ما أضفى عليها مهابة خاصة.
4- تجديد المسرح الشعري: أعاد جويدة الروح إلى المسرح الشعري العربي، الذي كان قد تراجع، فرفع الراية بعد صلاح عبد الصبور وأحمد شوقي، بمسرحية تنبض بالشعر والرسالة.
أقوال من المسرحية تصلح أن تُخلّد:
“حين تسقط الدماء على ستار الكعبة… تسقط كل الأقنعة.”
“لا دينَ لمن يذبح الطهر في حضرة الطهر.”
“ما عاد للسيفِ في الحرم مكانٌ… وما بقي للدينِ غيرُ البكاء.”
خاتمة:
“دماء على ستار الكعبة” ليست مجرد مسرحية، بل وثيقة شعرية دامغة في مواجهة الغلو والتطرف. كتبها جويدة ليُذكرنا أن الدين براء من الدم، وأن الحرم لا يطأه إلا القلب الطاهر.
هي صرخة شاعر، وبكاء مؤمن، ونداء مثقف لا يريد للحقيقة أن تُدفن في الركام.
فالكعبة باقية، والدم يزول، لكن الكلمة الصادقة تبقى خالدة.