بحوث ودراسات

من وحي الأيام: لماذا انحطت «خير أمة».. وهل ترتفع كرة أخرى؟ (٢)

[دراسة موضوعية في ضوء الكتاب والسنة، وآراء أقطاب الأمة]

محمد نعمان الدين الندوي

سنة الحياة في الصعود والهبوط

من حقائق الحياة الكبرى ومن سننها العظمى أنه:

ما طار طير وارتفع

إلا كما طار وقع

فـ: «الأيام دول»، و«عجلة الزمان دوارة»، و«الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك»، و«لكل شيء إذا ما تم نقصان».

فلا تدوم لأحد -أفرادًا وجماعات، شعوبًا وأممًا- العزة والغلبة، أو النكبة والهزيمة.. {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران ١٤٠]:

من سره زمن ساءته أزمان

فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا انحطت الأمة بعد ما علت، وشقيت بعد ما سعدت؟

ولماذا وقعت في الحضيض بعد ما وصلت إلى السماء، ودانت لها البلاد والأمم، واعترفت بعظمتها وسيادتها – طوعًا أو كرهًا – الدول والشعوب؟

وكيف أصبحت هذه الأمة – مع الأسف – في مؤخرة الركب وذيل القافلة وعلى هامش الأمم؟

وصارت تخضع وتنقاد -بعد ما كانت قائدة مطاعة- وتستجدي وتكدي، وتتأبط الكشكول، وتحمل ظرف: «الشحاذة»، وتعيش الغثائية والهامشية..

من يهن يسهل الهوان عليه ::: ما لجرح بميت إيلام

 وألف ألف معذرة على هذا التصريح السافر الفاضح بهذه الحقائق المرة الأليمة، التي تفتت الأكباد وتخلع القلوب أسى وحزنًا، وتبكي العيون دمًا لا دمعًا… ولكنها – على كل حال – حقيقة لا محيص عن تسجيلها، وواقع لا مناص من الاعتراف به، فوالله يكاد يذوب قلبي كمدًا وهمًّا، ويدي ترتعش، وقلمي لا يساعدني، وطبيعتي لا تطاوعني.. وأنا أقيد هذه الحقائق المخجلة، التي تخص أمتي التي أنا جزء منها، أفلم تعد الأمة تركع وتخضع للقوى الكبرى – وهي كلها معادية حانقة حاسدة للإسلام والمسلمين – وتستجديها كل ما تحتاج إليه من أتفه شيء إلى أضخم الأشياء، وتكفف دهاقينها صاغرة خاضعة، وتهان في المحافل الدولية، فلا تسمع لها كلمة، ولا يطاع لها أمر، وفي كل حارة مأتم، وفي كل شارع جنازة، وفي كل واد بنو سعد، والمصائب تترى، والكوارث لا حد لها ولا نهاية، والمجازر حديث يومي، والإهانات شيء عادي: (من وطأته العيون، وطأته الأقدام).

لو كنت من بني مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الخير في شيء وإن هانا

حتى كأن وجودها أصبح لا يعد وجودًا، وحياتها أصبحت لا تعتبر حياة..

فالسؤال المطروح الكبير: كيف هوت الأمة في هذه المهواة.. مهواة الشقاء والشنار والعار…؟؟ ولا يزال معها قرآنها محفوظًا كما نزل، وسنة نبيها مسجلة مدونة بكامل تفاصيلها ودقائقها…، والمساجد عامرة، والعلماء والدعاة كثر، والنشاطات الإسلامية على قدم وساق، ففي تشخيص الداء الدواءُ.. وقبل الرماء تملأ الكنائن.

بداية الانحطاط

وقبل أن نتقدم ونجيب عن هذا السؤال الذي طرحناه آنفًا… لعله ينبغي أن نثير سؤالاً آخر ونجيب عنه… وهو: متى بدأ ضعف الأمة الإسلامية التي بلغت من المجد والعظمة ما لا يتصور أسمى ولا أرفع منها، فقال أحد المفكرين:

أمران لا يحدد لهما وقت بدقة: النوم في حياة الفرد والانحطاط في حياة الأمة، فلا يشعر بهما إلا إذا غلبا واستوليا.

هكذا قال بعض المفكرين، ولكن الشيخ أبا الحسن الندوي حدد بداية انحطاط هذه الأمة قائلاً:

«إنه لحق في قضية أكثر الأمم، ولكن بدأ التدلي والانحطاط في حياة الأمة الإسلامية أوضح منه في حياة الأمم الأخرى، ولو أردنا أن نضع إصبعنا على الحد الفاصل بين الكمال والزوال، لوضعنا على ذلك الخط التاريخي الذي يفصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية أو ملوكية المسلمين». (١)

بعدما عرفنا بداية الانحطاط في الأمة تحديداً في رأي الشيخ الندوي، وهو رأي مطلعٍ بصير بتاريخ الأمة، له أهميته وقيمته، {ولا ينبئك مثل خبير}.

 أقول بعد معرفة الجواب عن السؤال عن بداية الانحطاط في تاريخ هذه الأمة، نعود إلى السؤال المركزي الأول:

 ما هي أسباب انحطاط الأمة؟ فنحاول في السطور الآتية الإجابة عن ذلك، وأولاً نشير إلى السبب الرئيسي لعز الأمة:

السبب الرئيسي لعز الأمة

يجب علينا -ونحن في بداية المطاف- أن نؤكد على أن عزنا معقود بالإسلام.. والإسلام وحده، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نحن كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغيره أذلنا الله»، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «كنا رعاة غنم، وبفضل الله صرنا رعاة أمم».

فهذا ما نؤمن به إيمانًا جازمًا، وأكدت عليه وصدقته التجارب عبر تاريخ الأمة الطويل، وصدق الكاتب الإسلامي أحمد أمين حينما قال: «خير ما في الأمم حاضرها، وخير ما فينا ماضينا» (٢).

إي والله! لقد أصاب كبد الحقيقة.. فرقي أمتنا وعزها ينحصر في أن ترجع وترجع حتى تلحق بركب الرعيل الأول، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

دين يشكو إلى الله قومًا أضاعوه:

والحقيقة أن في معرفة السبب الرئيسي لعز الأمة إجابة مكتومة شافية عن السبب الرئيسي لانحطاط الأمة وضعفها، فيعني انحطاطُ الأمة عدمَ ثباتها على الجادة المستقيمة، وعدمَ وفائها بالتزاماتها وواجباتها نحو دينها وعقيدتها.

فإننا ما أُصِبنا بما أصبنا به من هذه النكبة الشعواء والداهية الدهياء -التي نزلت بنا منذ عشرات السنين ما تفارقنا ولا تهدأ عنا- في صورة الانحطاط الشامل في جميع مرافق الحياة، إلا من ناحية الانحطاط العملي

ونؤمن -كذلك- بأن الله سبحانه عادل لا يصيب قوماً إلا بما قدمت أيديهم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كثير} [الشورى: ٣٠].

لقد أشار الله سبحانه في كتابه، والرسولُ صلى الله عليه وسلم في أحاديثه إلى سنن إلهية لارتفاع الأمم وأسباب لزوالها، نحاول – فيما يلي – إلقاء الضوء على أهمها.

 (يتبع)

الهوامش:

 (١) ما ذا خسر العالم، ص: ١٢٩ – الطبعة الخامسة عشرة.

(٢) فيض الخاطر ١/ ٢٥٤، الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

(الاثنين: ٢٠ من جمادى الآخرة ١٤٤٦ ھ = ٢٣ من ديسمبر – كانون الأول – ٢٠٢٤م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights