بحوث ودراسات

من وحي الأيام: لماذا انحطت: «خير أمة».. وهل ترتفع كرة أخرى…؟ (٣)

[دراسة موضوعية في ضوء الكتاب والسنة، وآراء أقطاب الأمة]

محمد نعمان الدين الندوي

قوانين إلهية لحياة الأمم

نشير فيما يلي إلى بعض مقومات الأمم:

وجود طائفة صالحة من أسباب حفظ الأمم:

أي لا بد من وجود طائفة في الأمم يدعون إلى الإصلاح، ويجهرون بالحق ويستنكرون الفساد، فإذا قصرت هذه الطائفة في القيام بواجبها، أسرع الفساد إلى الأمة، وضلت عن الطريق السوي، وسارت في طريق الفناء، قال تعالى: {فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: ١٢٢]، ويقول: {فلو كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه، وكانوا مجرمين} [هود: ١١٦]، أي لو كان فيهم جماعة تنهاهم عن المنكر، وتدعوهم إلى الخير، لما هلكوا.

و -كذلك- ذم القرآن الكريم اليهودَ بأن أحبارهم لم يكونوا ينهونهم عن الفساد في الأرض، فقال:

{لو لا ينهاهم الربانيون والأخبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} [المائدة: ٦٣].

الطائفة المباركة

فمثل هذه الجماعة أو الطائفة للأمم كالأطباء للأفراد، يشخصون أمراضهم، ويصفون لهم علاجهم، فإن تداوى الأفراد المرضى بوصفات الأطباء العلاجية، وجعلوها نصب أعينهم، صحت أجسادهم، وبرئت أسقامهم، وبعدت عنهم أمراضهم، ونعموا بالصحة، وإلا تعرضوا للهلاك.

فتمثل هذه الطائفة المباركة – المنبهة إلى أمراض الأمة الروحية، الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر – أطباء الأمة الروحانيين، الذين يشخصون أمراضها الباطنية، ويرشدونها إلى وصفات علاجية لها، ويأخذون بأيديها من الهلاك والدمار، ويحذرونها مما فيه ضررها وخسارتها، وهؤلاء الذين يسميهم القرآن الكريم: «الصالحين»، قال تعالى: {وعد الله آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذي من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [النور: ٥٥]، وقال: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: ١٠٥].

فيتوقف صلاح الأمم وحياتها وبقاؤها على جد هؤلاء الصالحين وجهودهم وتضحياتهم {فلو لا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} [هود: ١١٦].

صلاح أولي الأمر من أسباب بقاء الأمم

لقد بين القرآن الكريم أن الأمراء ومن بيدهم زمام الأمور إذا طغوا واتبعوا الشهوات، واسترسلوا للملذات وأسرفوا في الترف والبذخ، هلكت الأمم وبادت، لأنهم بذلك أنفقوا الأموال في إشباع شهواتهم، ولم يبذلوها في المرافق العامة وإصلاح الشعوب وتقويتها والنهوض بها مادّيًّا وعسكريًّا وعلميًّا وأدبيًّا، قال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا} [الإسراء: ١٦]. {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} [هود: ١١٧].

أي أن الله لن يهلك الأمم والشعوب ما دام أهلها صالحين وغير ظالمين، ولا فاسدين، فالأمم إذا أخذت بهذين المبدأين: (التزام الصلاح وتجنب الفساد والطغيان) قدر لها البقاء والقوة والعزة، و إذا أهملتهما منيت بالضعف والخذلان والغضب من الله.

يقول المفكر العربي شكيب أرسلان متحدثًا عن أسباب ضعف الأمة:

«بفساد أخلاق الأمراء ومواطأة بعض العلماء لهم، أصاب الأمة الإسلامية ما أصابها» (١).

العلم من أعظم أسباب تقدم الأمم

ومن وقف على أحوال الأمم وتصفح أخبارها، وعرف شؤونهم على اختلاف طبقاتهم وأزمانهم، تبين له أنهم في ارتفاع وانحطاط، وصعود وهبوط، وعز وذل، وإبادة وبقاء، وتبين له أن سبب تقدمهم ومدار ارتقائهم على منصة السؤدد وذروة العز هو العلم.

فبالعلم ترقى الأمم، وبالجهل تنحط الأمم، وحيث أننا من الأمم الحية على مدار التاريخ، إلا أن العزة أتت لهذه الأمة باعتناق الدين الإسلامي الذي هو المصدر الأساسي لمكارم الأخلاق، والتي بها ترقى الأمم.

وبالعلم يقضى على الجهل، والعلم -على اختلاف فنونه- من أعظم سعادة الأمم وعزها،

ونعني بالعلم: النافعَ الدافع إلى ضروريات حاجات الإنسان، فيدخل فيه جميع العلوم النقلية والعقلية أصلًا وفرعًا.

أما الجهل فهو أساس كل بلاء، وأصل كل مشقة وعناء، وهذه أوربا التي شجعت العلم، ووضعت له الخطط والميزانيات،

وأنشأت مراكز البحوث والمعرفة، قد سبقت غيرها في مجالات كثيرة بالرغم من وجود الكثير من السلبيات،

التي لن تكون في مجتمعاتنا الإسلامية، التي تعتمد الأخلاق ملفًّا شاملًا للعلوم والمعارف، والالتزام بالسلوك القويم والخصال الحميدة. (٢)

ويقول مصطفي السباعي: «مفتاح السعادة للأفراد والجماهير والحكومات: الأخلاق أولًا، ثم العلم والكفاءة» (٣).

ويقول الإمام الشافعي عن أهمية العلم: «من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما فعليه بالعلم».

مقومات أخرى لحياة الأمم

إن الله تعالى جعل لحياة الأمم ركائز ومقومات أخرى، منها: تربية النشء تربية صالحة،

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة نظام العائلة ونحو ذلك، فإذا تمت مقومات الأمة صلحت،

وإذا لم توجد أو لم يوجد بعضها لم تتكون أمة صالحة، وكذلك للأمة قوانين لارتقائها، لا ترتقي بدونها،

كبنائها الحياة على العدل وتدعيمها بالقوانين الاقتصادية التي تكفل رفاهيتها وثروتها،

فمن عمل بتلك القوانين نجح وارتقى، وإلا ضعف وفني، كذلك نرى أن الأمة إذا أخذت بمبدأ الشورى ومبادلة الرأي،

وخصوصًا في جلائل الأعمال ارتقت، وإذا استبد حكامها بالرأي من غير مناقشة ضعفت وانهارت، لأن المستبد مهما عقل، فليس بمأمون الزلل. (٤)

الهوامش:

(١) الأسطورة للدكتور عائض القرني، ص: ٦٣٢، الطبعة الثانية، ١٤٣٢ھ، دار المنهاج، بيروت.

(٢) جريدة: «الندوة» المكية، ٢١ شعبان ١٤٢١ھ، العدد: ١٢٧٧٧، من مقال للأستاذ فهد الطويرفي.

(٣) دروس من الحياة: ص ٣٠.

(٤) فيض الخاطر: أحمد أمين، ١٠/ ٣٩، الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

(السبت: ٣ من رجب ١٤٤٦ھ = ٤ من يناير -كانون الثاني- ٢٠٢٥م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights