مهنا الحبيل يكتب: ذات يومٍ في أوشَوَا الكندية
أحياناً يأخذني تأملٌ عميق في حال مشهدنا العربي والإسلامي البائس، وأتساءل هل ستخلقنا غزة من جديد؟
هل ستعيدُ ملحمة غزة قواعد التفكير وصناعة مستقبل مختلف، لأمة النهضة والقوة والقدوة، وبالذات حينما أرى تحول غزة إلى أيقونة روح ملهمة، للأفكار، ولسؤال العالم الاخلاقي الجديد لا العالم الغربي الحديث!
وبالذات حين ننظر لها من نافذة المهجر الغربي، وهي نافذة مهما حاولنا اختزالها في مساحة محددة، تبقى لها ثغرات أخرى للرؤية، فما بين صورة الغرب المنافق المجرم الذي ابتز العالم كله، وأخضع الأمم الجنوبية لمصالحه الرأسمالية، ثم دفع بقوانين الإنسان إلى مضيقه الحداثي الآثم.
وما بين قصة صراع الإنسان فيه لنيل الاعتراف بالكرامة الآدمية، وصناعة ثقافة حقوق ودستور تَحاكُم، يُقيِّدُ السلطة التنفيذية، التي أضحت في دول الشرق، سُلطةٌ واحدة تُشرّع وتُقاضي وتحكم، هناك قصصٌ أخرى لا يمكن تجاوزها علمياً، حتى لو كُرّرت إدانة الغرب المطلقة خطابياً، هذه المساحة هي التي لا يزال يتنفس منها المسلمون في الغرب، ولا تزال تمنحهم مضيقاً للعبور الحقوقي.
وهناك محاولات حثيثة من حكومات غربية، لوقف الهجرة ولحصر المضيق، ولإذابة الأجيال في قيمها الحداثية، فتفقدُ النفس المسلمة وبالذات الطفولة، كل جذور الفطرة، ومعاني الروح وقصة الوجود والتعبد الحكيم، فتنتهي الحكاية.
غير أن هذا كله ورغم أنه يتم بنوايا رسمية غير بريئة، يظل يصارع الذات القديمة، في قصة النفس الحقوقية التي انتزعت كرامتها الدستورية، وبالتالي لم تُحسم المعركة بعد، ولا يزال المسلمون في الغرب، لديهم مساحةً ليست هيّنة، للفرار من قدر الله إلى قدره الآخر، بحبل من الله وحبل من الناس، هو جل في عُلاه سخره لهم.
ورغم تجدد حالات الاضطرار للهجرة العكسية، غير أن تهاوي الشرق المتكرر، وردته الحقوقية في بلدان مسلمة عديدة، برياح عنصرية أو مظالم استبدادية، أو فساد مجنون، يضرب المقيمين، بل يؤذي بعض مواطنيه، فيُهجّر اللاجئون بكل قسوة وعنف، أو تُسقط الجنسيات، فيعود مسلمو الغرب عندها إلى المربع الأول.
إلى أين تذهب خيمتنا من جديد، وهي خيمٌ في صورة منازل وشقق، لكنها تطفو في الشرق على بساط ريح مضطرب، لا يدري الناس متى ينقلب عليهم.
وصل بشّار وهو شاب عراقي كندي، وناشط اجتماعي، يبحث عن سؤال النهضة، ويسعى لتحريك مفاعيلها، في حياة المسلمين الجديدة، إلى قُرب سكني في مركز المدنية بتورنتو، كان موعدنا أن ننطلق إلى أوشوا في إقليم اونتاريو، وهي مدينة صغيرة إلى الشرق من عاصة الإقليم، انطلقنا في صحبة جميلة ومؤنسة، والموعد فيها كان مع د. عمرو شفيق، أستاذ في جامعة (اونتاريو تيك)، وفقيه شافعي له نشاط دعوي، وناشط اجتماعي حيوي يسعى بين الناس مسلمين وغير مسلمين، بفقه المقاصد، وتتبع أخلاق العارفين.
لم تكن لدي خلفية عن د. عمرو، غير اني دخلت في الدهشة فور حضوري، تلك الروح المصرية الدافئة الجميلة، وأنفاس البسمة والمزح الترحيبي، وأجواء النور التي أبصرتُها في العائلة، جعلت تلك الشقة تبدو لي جمهورية من الأنس والرضا، وبما أنني كنت استمع دوماً بأن تحدي تقييم المطبخ المصري، لا بد أن يكون من أهلها من ذوي الأصول المعتبرة في الذوق.
فقد وقعتُ على تلك الفرصة في معهدها، فكان كرم المائدة اللذيذة، يسابقه مجلس الفكر الدسم، وزانه انضمام الصديق القديم أ. زياد محمد، الناشط الاجتماعي المهموم بحقوق المسلمين، الذي هاجر من ميساساغا إلى أوشَوَا، فكان مجلس متعة وحيوية مع تداخلات بشّار الذكية.
بإمكانك أن تنظر إلى مشهد المقال على أنه حوار بين متفقين، في مدرسة الفكر العام والفقه وأصوله، على معنىً أصلي في منهاج المقاصد الشرعي، وأن السؤال بينهم، هو كيف تخرج حوارات الفكر بين أهل التراث وأهل النهضة، لفهم مشتركات الشريعة الحاسمة، وأين هي تلك الفضاءات الضخمة، التي كانت ولا تزال، تَعطُّل مهمة الولوج لها، وتحريرها، سبب رئيس في مآلات الكوارث على المسلمين.
وبدلاّ من ملئ الفراغ تُشعل المعارك، لقطع الطريق من جديد على فكر النهضة، الذي كافح فيه أئمة الإصلاح الإسلامي، من عهد الإحيائيين الأوائل حتى سرب الغزالي والمسيري وآخرين، والغريب أن بعضاً ممن يتورط في تضليل فكر المقاصد الإسلامي، ويرفض معاني تحريره لمشاريع النهوض، بالحياة المدنية الحقوقية في الشريعة، وهي المقابل التفكيكي والفلسفي الندّي، لمنظومة العلمانية الغربية وأصولها الحداثية، بل يرفع صور المصلحين ويتحدث عنهم، قد يجهل فكرهم، أو لم يقرأ ما يكفي عنهم، فلا تدري هل تضحك أم تبكي كما بكى الغزالي في الحق المر وفي كتبه مراراً.
وللحكاية بقية…