في قاعات صنع القرار من واشنطن إلى طوكيو ومن بروكسل إلى بكين، يتردد صدى همسٍ واحد: الديون. ليست مجرد أرقام في ميزانيات، بل طوفانٌ صامت يكتسح الاقتصادات العالمية، حاملاً في تضاعفه إرثاً ثقيلاً من أيام الجائحة المظلمة. تشير الأرقام الصارخة إلى تحول خطير: **نحو ثلث دول العالم، التي تمثل مجتمعةً 80% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، تعيش اليوم تحت سقف ديون عامة تفوق مستويات ما قبل كوفيد-19 في 2020، والأخطر أن هذه الديون تنمو الآن بوتيرة أسرع من أي وقت مضى.** الصورة لا تقتصر على الكبار؛ فمعاناة المديونية تطال **أكثر من ثلثي الاقتصادات العالمية (أكثر من 67%) التي تحمل اليوم أعباء ديون أثقل مما كانت عليه قبل أن يضرب الوباء.
الجائحة: الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة:
لقد كانت الاستجابة العالمية لكوفيد-19 ضرورة حتمية لإنقاذ الأرواح ووقف الانهيار الاقتصادي. حكومات أطلقت حزم إنقاذ ضخمة، دعمت الأسر المتعثرة والشركات المتعثرة، وضخت سيولة غير مسبوقة. لكن هذه “الطوق النجاة” جاء بثمن باهظ. فتحت الخزائن العامة على مصراعيها، وزادت المطابع النقدية سرعتها، وارتفعت الديون إلى عنان السماء. ما كان تدبيراً طارئاً تحول إلى عبءٍ هيكلي ثقيل.
ما بعد الجائحة: رياح عاتية تزيد النار اشتعالاً:
لم تهدأ العاصفة مع انحسار الفيروس. فالحرب الروسية الأوكرانية أشعلت فتيل أزمة طاقة وغذاء عالمية، دافعةً بالتضخم إلى مستويات لم يشهدها العالم منذ عقود. واجهت البنوك المركزية التضخم بسلاح رفع أسعار الفائدة الحاد. وهنا تكمن المفارقة القاسية: ارتفاع الفائدة يجعل خدمة الديون القائمة أكثر كلفةً بدرجة مذهلة. فالدول التي اقترضت بفائدة 1% أو 2% تجد نفسها الآن تدفع 5% أو 6% أو أكثر على ديون جديدة ولتجديد القديم. هذه الزيادة المالية الخانقة تضغط بشدة على الميزانيات الوطنية، وتلتهم حصة متزايدة من الإيرادات الحكومية – أموال كان يمكن أن تخصص للصحة والتعليم والبنية التحتية والتحول الأخضر.
عبء مزدوج: الكبار يغرقون والصغار يختنقون:
اقتصادات 80% من الناتج العالمي:
ارتفاع ديون هذه الدول العملاقة (مثل الولايات المتحدة واليابان والصين ودول الاتحاد الأوروبي الكبرى) ليس مجرد شأن محلي. استقرارها المالي هو حجر الزاوية في النظام المالي العالمي. عجزها عن إدارة ديونها المتضخمة بكفاءة يهدد بموجات صدمات عبر الأسواق المالية العالمية، ويهدد قيمة العملات، ويحد من قدرتها على قيادة النمو العالمي.
ثلثا الاقتصادات:
هذه النسبة المرتفعة تشمل عدداً هائلاً من الدول النامية والاقتصادات الصاعدة. هذه الاقتصادات غالباً ما تكون أكثر هشاشة، وأقل قدرة على الوصول إلى التمويل بأسعار معقولة، وأكثر عرضة لتقلبات العملات العالمية. عبء الديان عليها ليس مجرد رقم؛ إنه سيف مسلط على رقبة تنميتها، يهدد بتحويل أزمات السيولة إلى إعسار شامل، ويثير مخاطر الاضطرابات الاجتماعية.
مستقبل غائم يتطلب حلولاً جريئة:
الخيارات قاسية ومحدودة:
التقشف المؤلم:
خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب لتحقيق فوائض مالية لخدمة الدين. لكن هذا الخنق يبطئ النمو ويزيد البطالة ويضر بالطبقات الأكثر فقراً.
تحفيز النمو:
محاولة زيادة الناتج المحلي الإجمالي أسرع من نمو الدين لتخفيف عبئه النسبي. لكن بيئة ارتفاع الفائدة والتضخم تجعل تحقيق نمو قوي مهمة شاقة.
إعادة هيكلة الديون:
خاصة للدول الأكثر فقراً. هذا يتطلب تعاوناً دولياً وإرادة سياسية من الدائنين (الحكومات والقطاع الخاص).
الرقص على حبل التضخم:
بعض الحكومات قد تضغط على البنوك المركزية لتأخير رفع الفائدة أو تخفيضها سعياً لتخفيف كلفة الدين، لكن هذا يخاطر بإشعال التضخم من جديد.
الطوفان لم ينته بعد. أرقام الديون ما زالت تصعد، وخدمتها تكبر، والمساحة المالية للحكومات تتقلص. عالم ما بعد الجائحة يحمل وراء مظاهر الانتعاش عبئاً دينياً هائلاً يهدد بتقويض المكاسب واستدامة النمو. إنها أزمة صامتة، لكن تداعياتها قد تكون مدوية، تتطلب حكمة استثنائية وتعاوناً عالمياً غير مسبوق لتفادي شلال من الأزمات المالية والاجتماعية في السنوات القادمة. مستقبل الرخاء العالمي معلق على كيفية إبحارنا في هذا البحر الهائج من الديون.