يوم انتصرت العرب على الفُرس.. “ذي قار”.. صهيل الكرامة وصوت الرمال
في قلب الصحراء العراقية، وتحت شمس لم تعرف الرحمة، سطّر العرب يومًا من أيامهم الخالدة في التاريخ، يومًا اختلط فيه الرمل بالدم، والعزة بالصهيل، والعروبة بالبطولة.
إنه يوم ذي قار، حين هبّت قبائل العرب لتقول “لا” لأعظم إمبراطورية عرفها الشرق في ذلك الزمان: الفرس.
البداية.. من خيانة إلى مواجهة
كان العرب وقتها ممزقين، بين قبائل متفرقة، يحكمها ملوك صغار يدينون بالولاء للفرس. وكان أعظمهم آنذاك النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، رجل حكيم شجاع، لكنه دفع حياته ثمنًا لكرامته، حين رفض أن يسلّم نساء العرب لكسرى، ملك الفرس. غضب كسرى، فقتله غدرًا، واغتصب هداياه التي كانت من جِمال وإبل عربية أصيلة.
أودع كسرى تلك الإبل عند أحد حلفائه، إياس بن قبيصة الطائي، وأمره أن يطلب من قبيلة بكر بن وائل حمايتها حتى يستعيدها لاحقًا. ولكن العرب لم تنسَ مقتل النعمان، فرفضت قبيلة شيبان أن تكون كلاب حراسة لأطماع فارس. وهكذا، بدأت شرارة الحرب.
الرمال تتكلم.. والعرب يستعدون
اجتمع شيوخ قبائل بكر بن وائل وعبد القيس وعجل، وقرروا أن الموت أهون من الذل. وقف بينهم الفارس الجليل هاني بن مسعود الشيباني، وقال قولته المشهورة: “إنّا لا ندفع عن أنفسنا اليوم إلا السيوف، ولن نعيد لكم شيئًا، فعودوا من حيث أتيتم!”
تجهّز العرب، وهم لا يملكون من السلاح سوى الشجاعة، ومن العدة سوى الصبر، لكنهم اختاروا بعناية أرض المعركة، في منطقة تُدعى “ذي قار” حيث الرمال عميقة لا تحتمل خيول الفرس المدرعة.
ساعة الصفر.. وارتجّت الأرض
زحف جيش الفرس، ثقيلًا، مزهوًا بقوته، بقيادة “الهامرز” الفارسي، وبمساعدة إياس الطائي. ولما تقابل الجمعان، صمتت الرمال، وبدأت الملحمة.
هجم العرب كالعاصفة، صهيل خيولهم يعلو، وسيوفهم تبرق تحت الشمس. وبرز المثنى بن حارثة كالصقر في الجو، يضرب بلا هوادة، ويدافع بلا كلل. وسقط الهامرز، وتبعته فلول جيشه كالأشباح الهاربة من لعنات الصحراء.
النصر.. كتبته الرمال بحبر الدم
انتهت المعركة بنصر ساحق للعرب، يوم لم يصدقه أحد، كيف لأمة متفرقة، عزلاء، أن تهزم أقوى ممالك الأرض؟!
قالت العرب يومها:
“هذا يوم من أيام العرب، لا يُنسى”
وسُجل في الذاكرة على أنه أول انتصار للعرب على العجم.
ذي قار.. أكثر من معركة
لم تكن ذي قار مجرد قتال على إبل أو ثأر لملك مقتول، بل كانت لحظة فارقة أدرك فيها العرب أنهم أهل لقيادة أنفسهم، وأن الكرامة لا تُشترى، وأن الرمال التي تمشي عليها الخيول، قد تنقلب نارًا تحرق الطغاة إن سُفك عليها دم الحرية.
أهم فرسان المعركة:
- هاني بن مسعود الشيباني – قائد العرب في المعركة.
- المثنى بن حارثة الشيباني – فارس مشهور شارك فيها، وبرز لاحقًا في الفتوحات الإسلامية.
- حاجب بن زرارة التميمي – له دور في الأحداث التي سبقت المعركة.
- عنترة بن شداد العبسي – لم يشارك فعليًا، لكنه ذُكر في بعض الروايات الشعبية بسبب شهرته.
- زيد بن مرثد العجلي – من فرسان قبيلة عجل الذين شاركوا.
- إياس بن قبيصة الطائي – قائد الجانب العربي الموالي للفرس.
نتائج المعركة:
- نصر ساحق للعرب، وهزيمة كبيرة للفرس.
- استقلال قبائل بكر بن وائل وأحلافها عن النفوذ الفارسي.
- رفعت المعركة من معنويات العرب وأثبتت قدرتهم على التصدي للإمبراطوريات الكبرى.
- اعتبرها المسلمون لاحقًا تمهيدًا للفتوحات الإسلامية.
في ذي قار، لم تكن السيوف وحدها من انتصرت، بل انتصر الكبرياء العربي، وانتصر التاريخ لمن لا يرضى بالخنوع.