مع دخول الحرب في غزة شهرها الحادي عشر، تزايدت حدة الانتقادات الدولية بشأن الخسائر البشرية والانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون والعاملون في الميدان.
وفي هذا السياق، برز موقفان لافتان من جانب رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. الأول يدين استهداف الصحفيين باعتباره جريمة ضد حرية التعبير.
والثاني يرسم ملامح غامضة لما يسميه “اليوم التالي” للحرب. بين الموقفين تتضح الفجوة بين الرؤية الأوروبية القائمة على القيم الحقوقية، والمقاربة الأمريكية التي يطغى عليها هاجس الأمن الإسرائيلي.
ميلوني: “قتل الصحفيين” انتهاك للقانون الدولي
أكدت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في تصريحاتها أن استهداف الصحفيين في غزة يمثل “انتهاكاً سافراً للقانون الدولي الإنساني”. وأضافت أن حرية الصحافة ليست ترفاً، بل حقاً أساسياً يجب احترامه حتى في أوقات النزاعات.
ميلوني شددت على أن الصحفيين هم “عين العالم” في مناطق النزاع، وأن إسكاتهم أو تهديد حياتهم يعني طمس الحقيقة وإفساح المجال أمام الدعاية والتحريف.
أوروبا والبعد الحقوقي
الموقف الإيطالي يأتي في إطار أوسع للاتحاد الأوروبي، الذي عبّر مراراً عن قلقه من حجم الانتهاكات في غزة. فالاتحاد يرى أن استهداف الصحفيين والعاملين في المجال الإنساني يهدد مصداقية الرواية الإسرائيلية ويعرقل عمل المنظمات الدولية.
ويرى محللون أن ميلوني – التي تُعرف عادة بمواقفها المتشددة في قضايا الهجرة والأمن – تسعى من خلال هذا الموقف إلى تأكيد أن إيطاليا قادرة على لعب دور أخلاقي في السياسة الدولية، خاصة في ظل الضغوط الشعبية المتزايدة داخل أوروبا لوقف الحرب.
ترامب: “اليوم التالي” يبدأ من أمن إسرائيل
على الجانب الآخر من الأطلسي، قدم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تصوره لما أسماه “اليوم التالي” لنهاية الحرب. تصريحات ترامب ركزت على نقطتين أساسيتين:
1. ضمان أمن إسرائيل بشكل كامل.
2. إعادة إعمار غزة بطريقة “لا تعيد الفوضى”.
ورغم أن ترامب لم يوضح كيف يمكن تحقيق هذين الهدفين عملياً، فإن حديثه يعكس مقاربة أمريكية تقليدية تضع الأمن الإسرائيلي في صدارة الأولويات، بينما تُترك القضايا الفلسطينية الأساسية في مرتبة ثانوية أو يتم تجاوزها بالكامل.
غياب وضوح حول الدولة الفلسطينية
سُئل ترامب عن موقفه من إقامة دولة فلسطينية أو أي شكل من الحكم الذاتي في غزة، لكنه اكتفى بالقول إن الولايات المتحدة “ستقود” الترتيبات ما بعد الحرب إذا عاد إلى البيت الأبيض.
هذا الغموض ليس جديداً على خطاب ترامب؛ فخلال ولايته السابقة، تبنى ما عُرف بـ”صفقة القرن” التي منحت إسرائيل اليد العليا على حساب الحقوق الفلسطينية، وهو ما جعل الفلسطينيين يقاطعونها تماماً.
ردود فلسطينية: “ازدواجية المعايير”
رحبت الأوساط الفلسطينية بموقف ميلوني، معتبرة إدانتها لقتل الصحفيين خطوة مهمة تعكس إدراكاً أوروبياً متزايداً لمعاناة الشعب الفلسطيني.
لكنها في المقابل انتقدت تصريحات ترامب بشدة، حيث رأت فيها استمراراً لسياسة “ازدواجية المعايير” الأمريكية، التي تركز على أمن إسرائيل وتتجاهل المطالب الفلسطينية الجوهرية مثل إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة.
الموقف الإسرائيلي: إشادة بترامب وتجاهل لميلوني
في إسرائيل، قوبلت تصريحات ترامب بترحيب كبير من أوساط اليمين واليمين المتشدد، حيث اعتُبرت دليلاً على التزامه غير المشروط بأمن إسرائيل. بعض السياسيين الإسرائيليين ذهبوا إلى حد القول إن “عودة ترامب للبيت الأبيض ستكون أفضل ضمانة لاستمرار الدعم الأمريكي”.
أما تصريحات ميلوني، فقد جرى التعامل معها بتحفظ، إذ اعتبرتها أطراف إسرائيلية “منحازة” أو “تحت ضغط الرأي العام الأوروبي”. في المقابل، رحبت منظمات حقوقية إسرائيلية مستقلة بموقفها، واعتبرته تذكيراً بضرورة الالتزام بالقوانين الدولية.
الخبراء: صراع بين القيم والمصالح
يرى خبراء في الشؤون الدولية أن الموقفين يعكسان صراعاً أعمق بين القيم والمصالح.
أوروبا، رغم ترددها، تحاول التمسك بخطاب حقوقي وأخلاقي يركز على حماية المدنيين وحرية الصحافة.
الولايات المتحدة، وخاصة مع ترامب، تنطلق من منطق براغماتي يعتبر أن ضمان أمن إسرائيل شرط لأي ترتيب سياسي أو اقتصادي لاحق.
المحلل الإيطالي لويجي فيراري يرى أن “تصريحات ميلوني ليست مجرد موقف أخلاقي، بل رسالة إلى الداخل الإيطالي والأوروبي بأن حكومات اليمين ليست بالضرورة ضد القيم الإنسانية”.
أما المحلل الأمريكي جوناثان ميلر فيعتبر أن “ترامب يحاول كسب أصوات القاعدة الإنجيلية والجمهوريين المؤيدين لإسرائيل، ولذلك يتجنب أي خطاب قد يُفهم منه اعتراف بالحقوق الفلسطينية”.
مشهد دولي منقسم
تكشف هذه المواقف عن انقسام متزايد في المجتمع الدولي بشأن كيفية التعامل مع حرب غزة وتداعياتها.
الأوروبيون يدفعون باتجاه مواقف أكثر توازناً، حتى وإن ظل تأثيرهم محدوداً.
الولايات المتحدة، بقوتها ونفوذها، تميل إلى إعطاء الأولوية لأمن إسرائيل على حساب البحث في حلول جذرية.
في العالم العربي، يُنظر إلى الموقفين كدليل على أن القضية الفلسطينية ما زالت رهينة التجاذبات الدولية، وليست في صدارة أولويات القوى الكبرى.
“اليوم التالي”: سؤال بلا إجابة
رغم كثرة الحديث عن “اليوم التالي” للحرب، لا يبدو أن هناك رؤية واضحة أو توافق دولي حول ما سيحدث فعلاً.
هل ستكون هناك إدارة فلسطينية جديدة للقطاع؟
هل ستلعب أطراف إقليمية مثل مصر وقطر دوراً أكبر؟
أم أن إسرائيل ستفرض واقعاً جديداً بالقوة؟
هذه الأسئلة تبقى مفتوحة، بينما يستمر المدنيون في غزة بدفع الثمن الأكبر.
أصوات متناقضة ومصير غامض
بين موقف ميلوني الحقوقي وموقف ترامب الأمني، تتضح ملامح الانقسام الدولي في النظر إلى حرب غزة. الأول يرى في حماية الصحفيين والحقوق المدنية جوهر المعركة، والثاني يركز على ضمان أمن إسرائيل كشرط لأي تسوية.
لكن الحقيقة المؤلمة تبقى أن “اليوم التالي” ما زال بعيداً، وأن النقاشات الدولية لم تتحول بعد إلى خطط عملية توقف نزيف الدم وتضع أساساً لحل عادل ودائم.