مقالات

ناصر صلاح يكتب: وقفات مع الآيات (1)

«ما يخطه قلمي ليس تفسيرا، فلستُ من أهله، وإنما هي وقفات أديب عند بعض الصور والمعاني والكلمات»

وقفت كثيرا أمام حوار سليمان والهدهد، وقفت مندهشا من ذكاء الهدهد وفطنة سليمان

تعالوا لنرى:

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) هذا دور الراعي أن يتفقد رعيته باختلاف طبقاتها وجنسها.

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)

وهذا دور الحاكم في إظهار قوته وقدرته على عقاب الرعية، يظهر الشدة أولاً ويفتح بابا يدخل منه الالتماس، أو تقديم ما يدحض الاتهام ويثبت البراءة.

كان لا بد من هاتين اللقطتين أولاً..

وتعالوا نرى ذكاء الهدهد..

علم بتهديد الملك فحضّر صحيفة الدفاع بذكاء يدهش قدم فيها:

1- (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) يعنى لم أكن ألعب، لا، أتيت بما لم يأتك من قبل (اللعب على شد الانتباه)

2- (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) وأحضرت لك السلطان المبين الذي طلبته، وكأن سليمان كان ينتظر خبرا عن سبأ تلك .. (إشغال البال بالاستفسار وانتظار ماهية الخبر)

3- (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)

اللعب على العامل النفسي (أوتيت من كل شيء) أهناك غير سليمان أتيح له هذا الأمر، وهو من قال قبل (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) ولها عرش عظيم.

كل هذا كاف لشغل بال سليمان عن التفكير في تعذيب وذبح، فهناك أدلة مهمة جاء بها الهدهد لتبرئته، لكن المسألة الآن لم تعد في الهدهد، بل فيما أتى به..

هل اكتفى الهدهد بذلك؟

 لا بل ذهب إلى استثارة سليمان وإشعال غضبه أكثر وأكثر،

تعالوا نرى بقية أوراق صحيفة البراءة:

4- (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الله أدخله إلى صميم العقيدة والدعوة، وبدأ يلمّس على وتر الرسول وليس الملك.

5- (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)

الهدهد ما زال يستثير سليمان ويشعل غضبه بأنهم قوم لا أمل فيهم إلا بالقوة، فهم لا يهتدون، وتذكرت مقولة أحمد عقل في فيلم الإرهاب والكباب حين كان يقول (أصل دي مش أهل هداية) فابتسمت للمبررات المتشابهة رغم اختلاف الموقف.

6- (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)

كل هذا بعيدا عن تفسيره الذي يعالج قلوب البشر.. لكنه في النهاية امتداد لصحيفة اتهام سبأ التي تبرّئ الهدهد عن غيابه.

هكذا قدم الهدد بذكاء شديد وترتيب مدهش أوراق اتهام غيره، ليحول العذاب والذبح له، ويفر هو من تهديد سليمان بل أصبح صاحب حق عليه..

 فماذا فعلت فطنة سليمان:

1- (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)

ضحكت كثيرا جدا على تلك الفطنة من الحاكم العادل فعلى من ادّعى البيّنة.. كيف تتأكد سيدى سليمان؟

2- (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)

أرسله إليهم برسالة من الملك وحتى يطمئنه على حياته ويحفظها له قال: (ألقه إليهم) ليس هذا فقط بل الإلقاء فيه عِزة الملك وقوة جنده.

سورة النمل تحمل الكثير من الدروس، والحمد لله أن فتح لنا بابا فيها،

هذا والله اعلم وهو من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights