«الوقفاتُ ليست تفسيرًا، فلستُ أهلا له، لكنها تفاعل جمال المعاني مع خيال نفس الأديب، فربما أصبتُ، وربما أخفقتُ»
ما تزال سورة يوسف تبوح لنا ببعض أسرارها، كلما تدبّرنا معانيها، وأنا الآن أمام آيةٍ حَوت رؤية أخذت بعقلي وقلبي، تأمّلوا معي أيها الأحباب:
(قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)
تأمَّلوا بماذا بدأوا.. بمبرر ليبرّئهم: (ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ)
كل تفكيرهم فى الأمان لهم، لم يحترق قلبهم لموت أخيهم،
لو احترق قلبهم لحزنوا عليه ولبدأوا بالمصيبة مثلًا: (يا أبانا أكلَ الذئبُ يوسف)، ثم تأتي المبررات.. لماذا لم يلحقوا به؟
فدائما مَن يصنع مصيبة يحاول أولًا أن يبرّر لنفسه، ثم يتحدث عنها.
أما عندما كان الأمر ليس بأيديهم، ولا من صنيعهم، قالوا: (يا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)
هنا بدأوا بالمصيبة (ابنك سرق)، ثم برّروا لأنفسهم، لأن الأمر هنا ليس مِن صنعهم، بل قَدَر الله.
بل تأملوا عظمة القرآن في بيان الفرق بين قوله تعالى:
(وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)
وقوله: (وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ)
المتأمل لكل قولٍ منهما وما سبقه من آيات، يدرك الفرق بين ثقة الصدق ولو لم يملك دليلًا عليه، واضطراب الباطل ولو بين يديه الدليل القاطع.
ففي الأولى (وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)،
لأن أخوة يوسف لفّقوا التهمة، وألقوا بها على الذئب، ولأن الدم كاذب على القميص، نطق لسانهم باضطرابٍ وخوفٍ من انكشاف الأمر
(وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، أي أننا كاذبون، وما كنت لتصدِّقنا حتى ولو كنا صادقين، فخوفهم وجذعهم فضحهم رغم وجود دليل بين أيديهم.
وفي الثانية (وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ)
لأن الأحداث حقيقية، وكانت بعيدا عن توقعهم وترتيبهم قالوا: (وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ)، بالتوكيد والتأكيد، ولم يكن معهم دليل إلا كلام الشهود (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُون)، كلام لكنه حقيقي غير ملفق.
فالصدق في القول ولو لم يك هناك (دليل) عليه؛ يمنح الثقة.
والباطل ولو معه ألف دليل؛ يمنح الجذع والاضطراب والفضيحة.
والله تعالى أعلم.