نقوش جلوزيل وتاريخ اللغة العربية في فرنسا من قرون
في مارس 2010، توفي إميل فرادين، وهو مزارع فلاح متواضع من وسط فرنسا عن عمر يناهز 103 أعوام، وأخذ معه إلى القبر السر وراء أحد أكثر الاكتشافات الأثرية إثارة للجدل في القرن العشرين وهو نقوش جلوزيل.
نقوش جلوزيل وكيفية اكتشافها
في اليوم الأول من شهر مارس 1924، كان فرادين البالغ من العمر 18 عاماً حينها، يحرث حقل جده في قرية جلوزيل الصغيرة وسط فرنسا، عندما تعثرت بقرته في حفرة طينية.
وعندما استطاع إخراجها، انهارت الأرض في ذلك المكان، ليكتشف وجود غرفة كاملة تحتها، مليئة بالفخار والعظام المنحوتة وبعض الألواح الطينية المليئة بالأحرف الغريبة التي لا يمكن فك شيفرتها.
طلب فرادين وجدُّه، من السلطة الإقليمية المساعدة من أجل أعمال الحفر، لكنّ السلطات رفضت طلبهما.
وفي العام التالي، وصلت أنباء هذا الاكتشاف إلى آذان الطبيب وعالم الآثار الهاوي، أنتونين مورليت، الذي قدم إلى المنطقة وبدأ في أول أعماله التنقيبية بالمنطقة، وخلال عامين من البحث استطاع إخراج كثير من الاكتشافات.
استمرت العجائب التي لا يمكن تصورها، في التدفق من الأرض، عندما أخرج نحو 3000 لوح طيني، منقوشة بأحرف غريبة، إضافة إلى رؤوس سهام وأعمدة منحوتة في العظم؛ حلقات تحمل الرموز الكابالية؛ عظام بشرية والأصنام المخنثة.
ووفقاً لما ذكرته المجلة الأمريكية History Scholar، فإن من بين الألواح الطينية هناك نحو 100 لوح تحمل نقوشًا ما زال معناها أو أصولها مجهولة حتى الآن.
أصول هذه الاكتشافات تعود إلى نحو 10 آلاف عام!
في البداية، كان يُعتقد أن الموقع يعود إلى حضارة “غالية رومانية”، وهي الحضارة المُرومَنة لبلاد الغال تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، ويعود تاريخها إلى القرون الأولى بعد الميلاد.
ولكن طبيعة بعض القطع الأثرية المُكتشفة توحي بمصدر أقدم بكثير، تم نقش تماثيل الرنة على بعض الاكتشافات، ونظراً إلى أن هذه المخلوقات قد انقرضت منذ أكثر من 10 آلاف عام، فقد اقترح مورليت أن الموقع يمكن أن يعود إلى أقدم من ذلك التاريخ، وفقاً لما ذكره موقع Atlantipedia.
في سبتمبر 1925، نشر مورليت تقريراً عن النتائج التي توصل إليها، وأرجع الفضل إلى الشاب إميل فرادين كمؤلف مشارك له.
الاستجابات الأكاديمية لاكتشافات نقوش جلوزيل
في البداية، رفضت الأوساط الأكاديمية الفرنسية للآثار تقرير مورليت، ولم تبدأ البعثات بالقدوم إلى المنطقة حتى العام التالي، عندما تمت دعوة عدد من علماء الآثار المتميزين لزيارة الموقع.
أجرى أمناء المتاحف وأعضاء الأكاديميات العلمية وعالم الآثار الفرنسي الشهير “أبي هنري برويل”، الملقب بـ”بابا ما قبل التاريخ”، أعمال التنقيب الخاصة به وقد أبهره ما تم إيجاده.
ومع ذلك، ولأسباب لا تزال مجهولة، سرعان ما غير برويل رأيه، وادعى أنّ جميع هذه الاكتشافات “مزورة”، وأنها من صنع الشاب الفلاح الذي بالكاد يعرف القراءة والكتابة، لتثير نقوش جلوزيل الجدل وتسبب انقساماً في الأوساط الأكاديمية الأثرية الفرنسية.
حقيقة أم محاولة تضليل؟
مع انتشار نظرية أنّ هذه الاكتشافات مزورة، بدأ العديد من علماء الآثار يحاولون إخفاء بعض الحقائق لأسباب مجهولة.
على سبيل المثال، فإنّ البروفيسورة دوروثي جارود، العضو الإنجليزي في لجنة جلوزيل عام 1927، قالت إنه بعد وصول البعثات الأثرية، بدأ الفلاح فرادين في صنع ألواح مزيفة لا تتناسب على الإطلاق مع ما تم العثور عليه من قبل، وفقاً لما أكده موقع Ancient Pages التاريخي.
بينما خلصت اللجنة ذاتها المؤلفة من ثمانية علماء آثار بارزين اختارهم مكتب المعهد الدولي للأنثروبولوجيا، بالإجماع إلى أن أكثر من 3000 قطعة أثرية -اكتُشفت في العامين الأولين- كانت مزورة.
بعد خمس سنوات أيضاً، ادعى علماء الآثار باستمرارٍ أن القطع الأثرية في جلوزيل كانت مزيفة، على الرغم من أن العديد من العلماء الآخرين أكدوا أنها حقيقية مثل مدير المتحف الفرنسي للآثار الوطنية، الدكتور سالومون ريناخ.
التكهنات حول نقوش جلوزيل
ورغم ذلك، فإنّ بعض علماء الآثار البارزين وعلماء النقوش بدأوا في التكهن بأن الألواح المكتشفة تشير إلى أن بعض هذه الكتابات يعود تاريخها إلى نحو 3300 عام في الشرق الأوسط، وتحديداً إلى اللغة العربية، بينما تنبأ البعض بأن هناك نقوشاً يعود تاريخها إلى قبل عدة آلاف السنين.
تضمنت النظريات الأخرى أن الموقع كان مخبأ للسحرة، وربما تكون الأبجدية التي لا يمكن فك شيفرتها لغة غامضة متعلقة بالسحر.
وعلى كل حال، فقد كان جميع هؤلاء الخبراء مرتبكين، ولم يتمكنوا من الاتفاق على تفسير موحد.
ماذا يقول العلم عن نقوش جلوزيل؟
في السبعينيات من القرن الماضي، اندلع النقاش مجدداً حول أصل الحروف الموجودة على هذه النقوش، ليتم فحص هذه الاكتشافات من جديد عن طريق “التأريخ الكربوني، والتألق الحراري” في عام 1975 من خلال البروفيسور من جامعة ساوثهامبتون البريطانية “كولين رينفرو”.
وقد أكد رينفرو أنّ بعض هذه الاكتشافات يعود إلى نحو 17 ألف عام، وأخرى تعود إلى 15 ألف عام، وأخرى إلى نحو 2000 عام فقط، ليطرح السؤال التالي نفسه: ما الذي جمع كل هذه الاكتشافات مُتباينة القدم في حفرة واحدة.
ومع اختلاف علماء الآثار في معرفة لغة نقوش جلوزيل، التي ادعى البعض أنها يونانية، أو كلتية، أو لاتينية، أو إتروسكية، فقد برزت 3 نظريات تعتبر هي الأقرب إلى الحقيقة.
1- نظرية بشنان
وفقاً لما ذكرته “دار الفيصل الثقافية”، فإنّ الباحث بشنان الأمريكي نشر بحثاً عن نقوش جلوزبل في عام 1981، وقد جاء فيه أنّ “لغة نقوش جلوزيل” هي “سامية عروبية”، ولها صلة قريبة باللهجة الكنعانية البونية الليبية والإيبيرية، وأن تلك النقوش كانت تحتوي على 91 لفظة عربية مُثبتة.
كما لفت بشنان إلى أنّ سكان جلوزيل كانوا من الكلتيين، وهو ما يثير انتباهنا إلى لغة أيرلندا الكلتية التي يمكن إيجاد 9 كلمات عربية من بين كل 10 كلمات في تلك اللغة.
2- نظرية هتز
بدوره نشر العالم السويسري هتز بحثاً عن نقوش جلوزيل عام 1997، وملخص نظريته أن اللغة في الألواح الطينية كلتية الأصل، ونفى عنها الأصل الفينيقي، معتبراً أن الكلتية لغة أوروبية.
3- نظرية سورين
أما العالم الألماني هربرت سورين، فقد نشر مقالاً في اللغة الفرنسية دافع فيه عن العالم “مورلت” أول من بحث وراء هذه الألواح، كما انتقد العلماء الآخرين الذين كذبوا حقيقتها، واستدل بقول عربي من العصر العباسي، مضمونه أن العلماء المحققين هم الذين يعملون على الاتصال بغيرهم من العلماء، ويناقشونهم، ويقابلون نتائج بحوثهم للوصول إلى الحقيقة.
أما نظرية سورين فهي معقدة بعض الشيء، إذ ترتكز على أهمية “علم قراءة النقوش” باستخدام ما يعرف في الغرب باسم بـTransliteration؛ أي وضع علامات مميزة للحروف إذا نقلت من لغتها إلى لغةٍ غيرها، كما يحدث للعربية إذا كتبت بالحرف اللاتيني.
ويفيد ضبط الحروف بعلامات في رؤية الحرف بصورته الحقيقية في لغته، ويؤدي إلى ترجمة الكلمة وتفسيرها ومقابلتها بالمعنى المعجمي والصرفي والنحوي.
وأخيرًا، تستمر محاولات فك رموز الأبجدية الغريبة، وحتى يومنا هذا، لم يتمكن أحد من الاتفاق على نتيجة موحدة.