في تحول سياسي غير مسبوق منذ اندلاع الحرب في السودان، أعلن التحالف السوداني التأسيسي، مساء السبت، عن تشكيل حكومة موازية تتكون من 15 وزيرًا، برئاسة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتعيين محمد حسن التعايشي، رئيسًا للوزراء. الإعلان جاء في توقيت بالغ الحساسية، تزامنًا مع توسع قوات الدعم السريع عسكريًا في دارفور وكردفان والخرطوم، ليظهر جليًا أن الصراع تجاوز ساحات القتال إلى سباق على الشرعية والسلطة في عمق الدولة السودانية.
حكومة موازية على أنقاض الدولة: محاولة لشرعنة السيطرة
إعلان الحكومة الموازية لم يكن خطوة معزولة، بل جاء ضمن مسار تصاعدي تبنّاه حميدتي منذ أسابيع، حين بدأ يتحدث عن “نظام بديل” و”ثورة جديدة”، مستندًا إلى النجاحات العسكرية لقواته. التحالف التأسيسي وصف الحكومة بأنها “تمثل الإرادة الثورية للمناطق المحررة”، في إشارة إلى المناطق التي باتت خاضعة لسيطرة الدعم السريع.
يرى الباحث السياسي السوداني د. ياسر فضل الله أن حميدتي “ينقل المعركة من البندقية إلى المكتب”، في إشارة إلى سعيه لبناء كيان سياسي موازي قد يصبح واقعًا إذا استمرت حالة الانهيار في مؤسسات الدولة الرسمية. وفق وكالة فرانس برس.
التمدد العسكري كأداة تمهيد سياسي
لم يكن إعلان الحكومة الموازية ليحدث لولا الزخم العسكري المتسارع لقوات الدعم السريع، التي استعادت السيطرة على الأبيض وأجزاء من نيالا، وتقدمت على عدة محاور في كردفان ودارفور. هذه المكاسب جاءت مدعومة باستخدام طائرات مسيّرة وتقنيات اتصالات حديثة، ما يشير إلى حصول الدعم السريع على دعم خارجي نوعي غيّر موازين القوة.
ويرى الخبير الأمني اللواء المتقاعد حسن عبد الرحيم أن “أي محاولة للسلطة البديلة في السودان يجب أن تسبقها سيطرة فعلية على الأرض”، مضيفًا أن “ما يحدث الآن هو تطبيق حرفي لهذا المبدأ”. وفق رويترز، 24 يوليو 2025
دعم خارجي منظم: من ليبيا إلى الخليج
أشارت تقارير استخباراتية نشرتها مجلة Foreign Policy إلى أن الدعم السريع يتلقى إمدادات عسكرية عبر الحدود الليبية والتشادية، بتنسيق مع فصائل محلية، إضافة إلى دعم لوجستي ومالي عبر شركات خاصة تتخذ من الإمارات وبعض العواصم الإفريقية مراكز عمل.
ويقول المحلل الدولي روبرت ماكنزي، من مركز الدراسات الأمنية في بروكسل، إن “ما يملكه حميدتي الآن ليس مجرد قوة ميدانية، بل شبكة معقدة من التمويل والتسليح والدعاية، تديرها جهات إقليمية تفضّل الفوضى على سيطرة الجيش السوداني”.
التعايشي واجهة مدنية لتغطية مشروع عسكري
تعيين محمد حسن التعايشي، أحد الوجوه المعروفة في اتفاق جوبا للسلام، رئيسًا للوزراء في الحكومة الموازية، لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل يهدف إلى إضفاء صبغة مدنية وثورية على مشروع يقوده فعليًا جناح عسكري مسلح.
ويعتقد الباحث في الشأن السوداني د. عبد الله مصطفى أن التعايشي “يوفّر لحميدتي الغطاء السياسي الذي يفتقده، خصوصًا أمام القوى الدولية التي لا ترغب في التعامل مع قائد مليشيا مباشرة”. لكنه يحذر من أن “هذا التحالف بين المدني والعسكري قد ينفجر لاحقًا إذا ما تصادمت الأجندات”.– الجزيرة، 27 يوليو 2025
هل سينجح مشروع الحكومة الموازية؟
نجاح هذا الكيان السياسي يعتمد على ثلاثة عوامل رئيسية: أولًا، استمرار السيطرة العسكرية على الأرض؛ ثانيًا، القدرة على تقديم خدمات فعلية للسكان؛ وثالثًا، الحصول على اعتراف ولو غير رسمي من أطراف خارجية. وحتى الآن، لا تتوفر لهذه الحكومة إلا الركيزة العسكرية، بينما لا تزال تفتقر للركيزة الاقتصادية والمؤسسية.
الخبير في النظم السياسية الإفريقية جوناثان بيرنز يرى أن “السلطة التي تنشأ من الحرب نادرًا ما تبني دولة قابلة للاستمرار”، مضيفًا أن “أي شرعية لا تنبع من إرادة الشعب ولا تُعترف بها دوليًا تبقى معلقة على خيط السلاح”. وفق مجموعة الأزمات الدولية، 25 يوليو 2025
صراع الشرعيات: هل يتكرر النموذج الليبي؟
مع إعلان حميدتي حكومته الموازية، يصبح السودان أمام ثنائية سياسية خطيرة، تشبه إلى حد بعيد النموذج الليبي، حيث تتنازع حكومتان الشرعية دون قدرة أي طرف على الحسم الكامل. يضاف إلى ذلك أن الدعم السريع ليس قوة محلية فحسب، بل أصبح يمثل واجهة لتوازنات إقليمية ودولية في قلب إفريقيا.
ويعلّق الخبير القانوني السوداني د. عمار التجاني: “نحن أمام دولة تتفكك تحت وقع أمراء الحرب والمصالح الإقليمية، وليس من المستبعد أن نشهد قريبًا خطوط تماس ثابتة ونظامين إداريين منفصلين داخل البلد الواحد”.
أي مستقبل ينتظر السودان؟
بين التقدم العسكري والدفع السياسي، يسير حميدتي على طريق مزدوج نحو تثبيت مشروعه كقوة أمر واقع، تحكم من خارج مؤسسات الدولة التقليدية. لكن هذا المسار محفوف بالمخاطر، خصوصًا في ظل هشاشة الدعم الشعبي، وغموض الموقف الدولي، وانهيار الاقتصاد.
في المقابل، يقف الجيش السوداني أمام تحد وجودي، تتآكل فيه شرعيته بمرور الوقت، بينما تتسع رقعة الحرب ويتزايد عبء النزوح والمعاناة على المدنيين.
إذا لم تتدخل الأطراف الإقليمية والدولية بحسم لإيقاف هذا الانقسام، فإن السودان يتجه بسرعة نحو نموذج “الدول المتعددة داخل الدولة الواحدة”، وهي وصفة معروفة للانهيار الكامل.
ردود الأفعال العربية: بين الحذر والدعم الرمزي
البيانات الرسمية من الدول العربية الكبرى كالسعودية ومصر لم تُشر بوضوح إلى تأييد أو رفض للحكومة الموازية، إلا أن مصدرًا دبلوماسيًا عربيًا نقلته “رويترز” قال إن “القاهرة والرياض تعارضان أي خطوات أحادية تزيد من تقسيم السودان، وتتمسكان بوحدة الدولة ومؤسساتها”.
في المقابل، جاءت إشارات من تشاد وليبيا (في مناطق نفوذ حفتر) تفيد بوجود تنسيق غير معلن مع قوات الدعم السريع، خاصة على مستوى الأمن الحدودي والتجارة عبر دارفور، ما يعطي غطاءً ضمنيًا لخطوة حميدتي.
المجتمع الدولي والأمم المتحدة: قلق وتحذير من “تدويل الانقسام”
أعربت الأمم المتحدة على لسان المبعوث الأممي الخاص إلى السودان، رامي عز الدين، عن “قلق بالغ من التصعيد الميداني والسياسي”، مؤكدة أن “تشكيل حكومة موازية يهدد وحدة السودان، ويزيد من مخاطر الانقسام والتدخلات الخارجية” (بيان رسمي، 27 يوليو 2025).
من جهتها، عبّرت الولايات المتحدة وفرنسا عن “رفض أي محاولات فرض أمر واقع مسلح”، مع مطالبة حميدتي “بالامتثال للتحقيقات في جرائم الحرب”، فيما دعت الاتحاد الإفريقي إلى جلسة طارئة لمناقشة الوضع الجديد.
المنظمات الحقوقية: خطوة تعزز الإفلات من العقاب
نددت منظمات حقوقية عالمية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية بإعلان الحكومة الموازية، واعتبرته محاولة “للتهرب من العدالة”، خاصة أن قادة الدعم السريع متهمون بارتكاب جرائم تطهير عرقي وقتل جماعي في الجنينة وزالنجي.
وقالت العفو الدولية في بيان: “تعيين سياسيين في حكومة يقودها متهمون بجرائم ضد الإنسانية يهدد بجعل العدالة ضحية مرة أخرى”، داعية مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لضمان محاسبة المسؤولين عن الجرائم بحق المدنيين (بيان رسمي، 28 يوليو 2025).