في أحد شوارع سيدني المزدحمة، حيث تتداخل صرخات الغضب مع هتافات التضامن، ظهرت هانا توماس، الشابة الأسترالية ذات الأربعة والعشرين عامًا، بثبات لا تهزّه العواصف. كانت تسير وسط الحشود التي خرجت في “مظاهرة سيدني الكبرى”، بعينٍ واحدة فقط ترى بها العالم. أما الأخرى، فتركتها خلفها على رصيف غارق بالدم والعدوان، حيث وقعت الحادثة التي غيّرت حياتها إلى الأبد.
في ظهيرة يومٍ غاضب قبل أسابيع، كانت هانا تقف، كما اعتادت، في صفوف المتظاهرين المدافعين عن الحق الفلسطيني. لم تكن تحمل أكثر من علمٍ صغير ولافتة تقول: “من أجل غزة… من أجل الإنسانية”. لكن ذلك كان كافيًا لأن تصبح هدفًا لبطش الشرطة، التي انهالت على المتظاهرين بالعنف لتفريقهم، لتسقط هانا أرضًا بعد أن أصابها مقذوف مطاطي في عينها اليسرى، أطلقه أحد عناصر الشرطة من مسافة قريبة.
من الطالبة الهادئة إلى الصوت الغاضب
قبل هذه الحادثة، لم تكن هانا معروفة خارج أروقة الجامعة التي تدرس بها علم الاجتماع، ولا خارج المجموعات الطلابية الصغيرة التي تنشط في الدفاع عن قضايا البيئة واللاجئين. لكنها لم تكن يومًا بعيدة عن السياسة، فقد بدأت نشاطها السياسي في عام 2018 عندما انضمت إلى حملة شعبية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية ضمن حركة BDS، ثم شاركت في تأطير حلقات نقاش داخل جامعتها عن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وكانت تكتب بانتظام مقالات في المدونة الطلابية عن حق العودة والمقاومة المدنية.
عام 2021، خرجت هانا في أول مظاهرة حاشدة لنصرة غزة، عقب العدوان الإسرائيلي في مايو من نفس العام، وهناك تقول إحدى زميلاتها: “كانت هانا تبكي وهي تهتف، شعرت أن دم الأطفال في رفح يسيل من بين يديها… من يومها، تغيّر كل شيء في حياتها”.
رقعة العين.. ليست ضمادة، بل راية
حين ظهرت في مظاهرة سيدني الأخيرة، كانت تضع على عينها رقعة سوداء صغيرة رسمت عليها علم فلسطين. لم تكن محاولة لإخفاء الوجع، بل إعلان صريح عن اختيارها.
قالت إحدى صديقاتها:”هانا أرادت أن تقول إن الألم ليس نهاية، وإن العين التي فقدتها هي ثمن عادل لرؤية أكثر وضوحًا… لرؤية جوهر الصراع”.
وقد كتبت هانا، في أول منشور لها بعد خروجها من المستشفى: “لم أفقد بصري… بل رأيت الحقيقة بكل وضوح. ما حدث لي ليس سوى نقطة في محيط من الألم الفلسطيني. فقدت عينًا، لكنني أكسبت قلبي وضوء ضميري.”
رمز عالمي للعدالة والصلابة
تحوّلت قصة هانا توماس إلى مادة إعلامية عالمية، ونُشرت صورها في صحف ومجلات كبرى، ليس لأنها ضحية، بل لأنها صوت رافض للهزيمة. هي لم تسعَ للشهرة، لكنها اختارت أن يكون جسدها شاهدًا على ما يحدث عندما تنتصر الإنسانية على الخوف.
في مقابلة قصيرة لها قالت:“القضية الفلسطينية ليست صراع أديان كما يحاول البعض أن يصورها، بل هي صراع بين الظلم والعدل… بين الاحتلال والحرية.”
رسالة مفتوحة إلى العالم
اليوم، تقود هانا مبادرة شبابية باسم: “عين على فلسطين”، تنظم من خلالها ورش عمل في الجامعات الأسترالية، وتُنسق مع نشطاء عالميين لتوسيع قاعدة الوعي بما يحدث في الأراضي المحتلة.
هي تؤمن أن المعركة لن تُحسم بالسلاح فقط، بل بالأصوات، بالكلمات، بالصمود المدني، بالتعليم، وبالوعي.
في زمنٍ يحاول فيه البعض طمس الحقائق أو دفنها تحت ركام الأخبار الموجهة، تنهض هانا توماس بعين واحدة وقلب كامل، وتهمس للعالم:
“حتى لو كنت أراكم بعين واحدة… فأنا أراكم بوضوح أكثر من أي وقت مضى.”