هذه حظوظ تركيا والكيان في حسم صراع المصالح علي الكعكة السورية
كانت النداءات الموجهة لنظام بشار الأسد تتوالي طوال أكثر من عام سوريا من قبل أطراف إقليمية وتتزايد وتيرتها، بل وحتى صراحتها ومن ضمن هذه التصريحات، ما قدمته القيادة الإسرائيلية عدة مرات على صيغ تهديدات للنظام السوري، وأيضاً ما قدمته تركيا من تصريحات تدعو النظام إلى التفاهم، وحل الأزمة السورية،
ولا يمكننا في هذا السياق تجاهل ما قدمته دول عديدة تدعو نظام الأسد للتفاهم، وتحثه على تسوية الصراع بصورة سلمية واتخاذ خطوات إلى الأمام نحو إعادة هيكلة سياسية.
في هذا الوقت وبحسب دراسة لمركز أمد للدراسات السياسية كان تجاوب النظام السوري انتقائياً للغاية مع هذه الدعوات، وكان يجيب منها ما يمكن أن يرمم شرعيته السياسية ويعيد له حضوره في المساحة الإقليمية، رامياً من هذا فرض نفسه على المجتمع الدولي مرةً أخرى من خلال إعادة إنتاج نفسه عربياً وإقليمياً، دون اتخاذ أي خطوات تجاه قوى إقليمية في محيطه .
في هذا السياق ، جاءت عملية ردع العدوان التي أطلقتها قوى المعارضة السورية في السابع والعشرين من نوفمبر، لتطرح معها مجموعة كبيرة من الأسئلة، عن الأطراف الدولية التي قد تكون وراء مثل هذا الانهيار السريع للنظام السوري.
وهنا كانت أصابع الاتهام تتوجه تارة نحو إسرائيل، في إطار منافستها على النفوذ الإقليمي مع إيران، وتارةً أخرى نحو تركيا التي يشار إليها كداعم أساسي لقوات المعارضة السورية.
يمكن القول أن معظم اهتمامات تركيا في الجغرافيا السورية تنطوي تحت شعارين أساسيين، الأول وهو حدود الأمن القومي التركي، والثاني وهو خطوط التجارة ومساحات تأمين الموارد.
وتحتهما يمكن القول أن العديد من الأولويات والملفات، تبقى حاضرةً في عقل القيادة التركية بخصوص حساباتها هناك. ومن هذه القضايا ما يتعلق بتوسع كل من الأكراد وإسرائيل. على صعيد آخر ما يتعلق بخطوط التجارة ومراكزها في سوريا والعالم العربي والإطلال على المتوسط.
الأمن القومي والتحديات
لطالما كانت تركيا من الدول التي تمتلك أدبيات موسعة بخصوص أمنها القومي، ومنها ما يتعلق بالحدود البرية والحدود البحرية، حيث يعتبر الكثير من القوميين الأتراك بعض المناطق في شمال سوريا وصولاً إلى حلب، وفي شمال العراق مثل الموصل وكركوك جزءاً من الأراضي التركية، ناهيك عن مناطق في القوقاز مثل ناخيتشيفان.
وبل يدرج مؤخراً ما يسمى بالوطن الأزرق الذي يوسع نطاق المياه الإقليمية التركية بين البحار الثلاثة بحر إيجة والبحر الأسود وبالبحر المتوسط، ليشمل جزر في بحر إيجه. وإن كانت تركيا الحديثة اليوم لا تعرّف هذه المناطق على أنها جزء من أراضيها وتحاول السيطرة عليها، إلا أنها تعرفها على أنها جزء من نطاق أمنها القومي، ما يدفعها باستمرار إلى ضمان نفوذها في هذه المناطق وقد تجلى من خلال سياسية المناطق العازلة التي نفذتها مؤخراً.
قد يبدو من المعتاد الحديث عن المخاوف التركية من النفوذ الكردي على حدودها الجنوبية، حيث يمثل الحلم الكردي أيضاً تهديداً لسلامة الأراضي التركية التي حددتها اتفاقية لوزان عام 1923 والتي يراها الأتراك منقوصةً أصلاً.
وفي ظل هذا يتحرك الأتراك باستمرار لضرب وإضعاف البنى السياسية والعسكرية الكردية التي تحمل هذا الحلم الكردي الذي يمتد إلى داخل الأراضي التركية.
ولكن ما هو جديد باعتقادي، أن تركيا بدأت تتصرف اليوم باعتبار إسرائيل منافسا فاعلا على الجغرافيا الإقليمية، ومنافس آخذ بالاقتراب من الحدود التركية.
فيما تعبر تصريحات إسرائيل المستمرة عن عودة حزب الله إلى ما وراء الليطاني في الجنوب اللبناني، وقبلها ضم الجولان، وتصريحات متناثرة رسمية وغير رسمية عن طموحات إسرائيلية في الشمال داخل الأراضي اللبنانية والسورية تدق ناقوس خطر مزعج بالنسبة للأتراك.
ومن الثابت الإشارة إلي إن أي توسع إسرائيلي إلى الشمال يعني اقتراباً إسرائيلياً من الأراضي التركية، وعلى الرغم من كون هذا التهديد بصفته المباشرة بعيد إلى حد ما، لكن اقتراب إسرائيل من الأكراد يمثل تهديداً أكبر بالنسبة للأتراك الذين يرون في إسرائيل داعم فاعل للأكراد، وهم المكون الذي يمثل في الخيال الصهيوني الجار الطبيعي “للحلم الإسرائيلي” في إسرائيل الكبرى التي تقف حدودها على ضفة الفرات.
ومن المهم الإشارة هنا إلي إن وجود اتصال مباشر بين الطرفين يرفع من التهديد الكردي على الأراضي التركية ويدفع بتركيا إلى اتخاذ إجراءات احترازية مبكرة، وهو ما دفع أردوغان إلى تصريحات صادمة عن إمكانية تدخل تركيا عسكرياً في لبنان كما تدخلت في ليبيا وأذربيجان في وقت سابق من الحرب.
أمن الموارد وخطوط التجارة
لا يمكن في هذا السياق تجاهل الإشارة إلي إن سوريا كما ذكرنا سابقاً تمثل نقطة مركزية في التقاء خطوط النقل والتجارة، وبالضرورة فهي تعني لتركيا الكثير خصوصاً فيما يتعلق بتجارتها البرية نحو الدول العربية وتحديداً دول الخليج.
ولكن على الرغم من كون خطوط التجارة نقطة مركزية ومهمة، إلا أن الأهم هي بعض المراكز التجارية والحرفية على رأسها حلب، التي تمثل أرضاً خصبة للتجارة وتحديداً الصناعة والأعمال الحرفية. وهي مناطق تطمح تركيا بامتلاك وصول مباشر وسهل لها باستمرار.
ومن اللافت التأكيد كذلك إن التجارة والنقل مهمين بالنسبة لتركيا، ولكن هذه الأهمية تبقى متأخرة بالنسبة لتركيا عن الأهمية الاستراتيجية المتعلقة بالموارد. قد لا تكون تركيا معنية بالسيطرة على الموارد بشكل مباشر في سوريا، وخصوصاً النفط في شمال شرق سوريا، ولكنها معنية أكثر بما يتعلق بتنافسها المحموم مع الاحتلال الإسرائيلي على حقوق التنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط.
وكان لافتا كذلك أن أي منطقة على سواحل المتوسط يمكن لتركيا أن تضع فيها موطئ قدم أو تتحالف فيها مع حكومة ما، تمثل أولوية قصوى لها، وتعطيها نقاط مضاعفة في السباق على السلطة والموارد في المتوسط، ناهيك عن أن للواجهة البحرية السورية أهمية مركزة كونها تقابل جزيرة قبرص، وتحسن من شروط تركيا في التعامل معها.
وأخيراً لا يمكن تجاهل ما أشير إليه دائماً عن طموحات تركية بتمرير خطوط غاز ونفط عن طريق شركاء في الخليج نحو أوروبا، مما قد يوفر لها هي موارد مخفضة الثمن نتيجة عبور الأنابيب من أراضيها، ناهيك عن منحها ورقة قوة بسبب ذلك.
وكأي كيان استعماري، فإن الهاجس الأمني يمثل عنصراً عضوياً في عقل إسرائيل، وينعكس هذا على كل من الفكر والسياسية والاقتصاد، وأي شكل من أشكال التفاعل مع الواقع. وفي هذا السياق، يمكن القول أن جل تحركات إسرائيل في سوريا مبنية على احتياطاتها، وتطلعاتها الأمنية والعسكرية، وأحلامها التوسعة، مع القليل من الاعتبارات المتعلقة بالموارد، ومحاولة الإمساك بالمزيد من خيوط المنطقة.
ويمكن القول أن هذا من البدهي العام في تحرك إسرائيل، ولكين كيف يتجلى هذا في تفاصيل هذه التحركات، وما هي المرامي التكتيكية لهذه التحركات؟ إن من أهم ما تعمل عليه إسرائيل من خلال توسيع سيطرتها بعد الجولان إلى جبل الشيخ،
حيث تسعي الدولة الصهيونية أولاً لضمان نقطة استراتيجية من على تلك التلال، تكاد تمنح إسرائيل خطوط مراقبة مفتوحة حتى دمشق، فهذه المواقع مواقع مراقبة، ومواقع تمركز استراتيجي، إضافةً إلى كونها تأمين للجولان كمكتسب لن يعود هو نطاق التفاوض الأساسي، بل ما تم احتلاله من بعده.
وتسعي إسرائيل لتأمين مواقع متقدمة لقوتها العسكرية، في نطاقات حساسة بالنسبة للعاصمة السورية دمشق.
و يمكن القول إن إسرائيل تعي تماماً أن تغيرات الحكم في سوريا ليست منضبطة، وأنه لا يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه المشهد، ما يدفعها للجري على قدم وساق للتموضع في نطاقات حساسة أقل من 30 كم، تتيح لها كسب موقع ضاغط على السلطة في دمشق أياً كانت،
والأهم من ذلك أنها تتيح لها التدخل المباشر إن لزم الأمر ضد العاصمة، وهو أمر قامت به من خلال غارات مكثفة في مختلف الأراضي السورية، في جهود موازية للتأمين الجغرافي، لإبقاء أي قوة ستحكم سوريا ضعيفة ولا تمتلك عتاد عسكري يمثل تهديد لإسرائيل.
وتسعي إسرائيل بوضوح إلى السير شمالاً على طوال الحدود مع لبنان مقتربة قدر المستطاع من معبر المصنع يعيقها صعوبة قطع استراد بيروت – دمشق، وذلك لسببن أساسيين،
السبب الأول أنها تحاول قد المستطاع التمركز على كامل الحدود التي يستفيد منها حزب الله بشكل مباشر، وتلتقي مع أراضي جنوب لبنان، بهدف قطع خطوط الإمداد على الحزب وهو مشابه لما يهدف إليه بسيطرته على محور فلدلفيا في غزة.
والسبب التثاني يأتي في سياق التمركز في هذه المواقع يمنح الاحتلال الإسرائيلي مواقع متقدمة في ظل الحرب البرية، بحيث لا يصبح مضطراً لمواجهة الحزب فقط من شمال إسرائيل والجولان، بل يمتلك معابر برية على مناطق لم يكن يتمكن من الوصول لها من خلال سلاح الجوي، أي أنه يعمل على صناعة محور إلتفافي من حول حزب الله.
موارد سوريا وورقة الضعط
إن من أهم ما تعمل عليه إسرائيل بتوسيع سيطرتها في جنوب لبنان قد يكون محاولتها توسيع تأثيرها على الجغرافية السياسية، وضمان تأثير بطريقة أو أخرى على ما تمثله من مساحة التقاء خطوط تجارية، ولكنها تركز بشكل أساسي على تأمين موارد مباشرة، أهمها الماء، إن إسرائيل بسيطرتها على جبل الشيخ كرست سيطرتها على منابع طبريا،
وكذلك بتوجهها شرقاً وجنوباً، رسمت لنفسها موقعاً لم يكن موجوداً تاريخياً – على الأقل ليس بهذا الحجم- على حوض اليرموك، وهذا يمثل بشكل أساسي تحدياً للأردن الذي تكاد تصبح جل مصادره المائية السطحية مقرونة بإسرائيل.
من الثابت إن كلا من إسرائيل وتركيا، تدركان جيداً أن كلا منهما يقترب من الآخر، وأن كلا منهما يتوجه إلى تأمين نفسه على التراب السوري من تبعات أي اضطراب، أو توسع مفاجئ في ظروف لحظية قد تسهل وقوع هكذا تحولات دراماتيكية، وهو نابع من كون الدول تتصرف دائماً انطلاقاً من السيناريو الأسوأ.
ويمكن القول في تقييم هذا السباق، إن تركيا التي كانت ترى تصريحات القيادة الإسرائيلية، قد استفادت من تجهيزات الثوار في شمال سوريا، ودعمتها وحفزتها ودفعت نحو حسم مبكر. وفي قراءتنا لهذا التحرك فإننا لا نرى أن دولة الاحتلال كانت تتوقع هذا السقوط المدوي والسريع لنظام الأسد، ولم تتوقع سقوطاً سلسلاً إن جاز التعبير.
ومن المهم الإشارة إلي السيناريو الذي جرى في سوريا يمثل السيناريو الأسوأ لإسرائيل من حيث شكله، فإسرائيل التي استثمرت مع بعض حلفائها العرب في دموية الثورة السورية واستعصائها، كان الأفضل لها أن تتفجر سوريا مرةً أخرى ويسقط بشار بشلال دم، أو الأفضل من كل هذا، أن يكون لها هي يد في إسقاطه أو قتله، لتتطهر إسرائيل، سفاحة المنطقة، بقتلها أكبر سفاح سياسي في محيطها، لأنها ستبني على ذلك تدخلاتها مع قوى سورية قد لا تمانع من اتصال سياسي مع إسرائيل بناءً على هذه القاعدة
وفي ظل هذه المنافسة المحمومة، فإن وجود القوى الثورية ذات العلاقة القوية مع تركيا في مركز السلطة في دمشق، يمثل تحدياً في سياق التنافس مع تركيا، ولكنه يمثل أيضاً تحدياً على صعيد ما يصدره هذا النموذج السياسي من دعاية ثورية، إضافةً إلى احتمال تصدر أصولية إسلامية، أو إسلامية معتدلة، مدعومة من حليف إقليمي لا دولي، وبصورة مباشرة، مادياً وعسكرياً على تماس مباشر مع حدود فلسطين المحتلة،
وهذا يقودنا إلى التوقع بأن التحركات العسكرية قد تترافق معها تحركات سياسية كبيرة بهدف منع هذه القوى الثورية من إحكام سلطتها على الأراضي السورية، وإن لم يكن بإفشالها كلياً، فبالسعي إلى تقليص مناطق نفوذها أو حضورها في مؤسسات الدولة.
وسط هذه الظروف، لابد أن نشير إلى أن أحد أهم التحديات التي تواجهها القوى الثورية في سوريا، أو الحكومة الانتقالية اليوم، هو قدرتها على إدارة الجغرافيا السياسية السورية، بما يمثل مصالح سوريا العليا،
وايضا إدارتها من خلال الحلفاء المناسبين لذلك، دون الاضطرار إلى رهن هذه الجغرافيا لسياسات الأمن القومي لدول محيطة بها، بحيث تتمكن من الاستفادة من حساسية الجغرافيا، دون أن تتحول محاولة الاستفادة إلى ما يشبه تأجير الأرض لمصالح متجاوزة للمصالح الوطنية السورية