هكذا يفكر الآخر: الطريق إلى المعرفة من أفلاطون إلى كانط
على مدار تاريخ الفلسفة، تطور مفهوم المعرفة بشكل كبير، من التصورات المثالية عند أفلاطون إلى النقدية عند كانط. سنستعرض أهم المحطات في هذا المسار الفلسفي:
1. أفلاطون (427-347 ق.م): المعرفة كاستذكار
أفلاطون يرى أن المعرفة الحقيقية ليست مكتسبة من التجربة الحسية، بل هي تذكر للحقائق الأزلية التي عرفتها الروح قبل أن تحلّ في الجسد. في كتابه “الجمهورية”، يوضح ذلك عبر أسطورة الكهف، حيث يرى أن العالم الحسي مجرد ظلال للعالم المثالي الذي يحتوي على الحقائق المطلقة.
المعرفة عنده يقينية، وتتحقق عبر العقل فقط، وليس عبر الحواس.
2. أرسطو (384-322 ق.م): المعرفة كإدراك تجريبي
على عكس أستاذه أفلاطون، يؤكد أرسطو أن المعرفة تبدأ من التجربة الحسية، ثم يتم تعميمها بالعقل. يرى أن العالم الخارجي حقيقي، وأننا نصل إلى الحقائق عبر الاستقراء (الانتقال من الجزئيات إلى الكليات).
المعرفة ليست تذكّرًا، بل بناء يعتمد على الحواس والعقل معًا.
3. ديكارت (1596-1650): المعرفة كيقين عقلي
مع العصر الحديث، حاول ديكارت الوصول إلى المعرفة عبر الشك المنهجي، لكنه وجد أن الحقيقة الأولى اليقينية هي: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. من هنا، وضع أسس العقلانية الحديثة، حيث أن العقل وحده قادر على إنتاج المعرفة الحقيقية، بينما الحواس قد تخدعنا.
المعرفة يقينية وتبدأ من الذات المفكرة، وليس من التجربة.
4. جون لوك (1632-1704): المعرفة كإحساس وتجربة
في مقابل ديكارت، جاء لوك ليؤسس التجريبية، حيث رفض فكرة “الأفكار الفطرية”، معتبرًا أن العقل عند الولادة صفحة بيضاء (Tabula Rasa)، تُكتب عليها المعرفة من خلال التجربة الحسية.
المعرفة تُبنى عبر التجربة، وليس عبر أفكار عقلية سابقة.
5. إيمانويل كانط (1724-1804): المعرفة كمزيج بين العقل والتجربة
جاء كانط ليحاول التوفيق بين العقلانيين (مثل ديكارت) والتجريبيين (مثل لوك). يرى أن العقل والتجربة يكملان بعضهما البعض:
التجربة توفر المادة الخام للمعرفة.
العقل يُنظم هذه المعرفة وفق مفاهيم وقوالب قبلية مثل الزمان والمكان والسببية.
المعرفة ليست مطلقة، بل محدودة بإمكانات العقل البشري.
النتيجة
نلاحظ أن الطريق إلى المعرفة تطور من المثالية الأفلاطونية إلى النقدية الكانطية، حيث لم يعد يُنظر إلى المعرفة كإشراق إلهي أو تذكّر، بل كنتاج مشترك بين العقل والتجربة. هذه الرحلة كانت حجر الأساس للفلسفة الحديثة، وما زالت تُؤثر في نظريات المعرفة اليوم.