مع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، شهد العالم واحدة من أكثر الضربات إثارة للجدل في العقود الأخيرة، وهي الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة على منشآت البرنامج النووي الإيراني. ورغم أن بعض الأوساط السياسية والإعلامية سارعت إلى الحديث عن “نهاية” الطموح النووي الإيراني، فإن تحليلات استراتيجية أعمق -مدعومة بتقييمات خبراء وعلماء بارزين- تُظهر واقعًا مختلفًا.
وكشفت صور الأقمار الاصطناعية، التي حللتها شركات متخصصة، عن حركة مركبات “غير طبيعية” بالقرب من موقع فوردو النووي الإيراني قبل الضربة، وفقًا لما ذكرته صحيفة واشنطن بوست نقلاً عن صور من شركة ماكسار. وبعد الهجوم، أظهرت الصور أضرارًا سطحية، لكن لم يتم تأكيد اختراق التحصينات العميقة للموقع أو انهيار الهيكل الأساسي للمنشآت تحت الأرض. وهذا يشير إلى أن الضربة ربما استهدفت البنية التحتية السطحية دون أن تتسبب في تدمير كامل للمنشآت المحصنة.
تصريحات رسمية.. غموض وتضارب
تضاربت التصريحات الرسمية حول حجم الأضرار الناجمة عن الضربة. فمن جهة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من البيت الأبيض أن العملية “نجحت بالكامل”، مستندًا إلى معلومات أولية من البنتاغون، مما يوحي بفعالية كبيرة للهجوم.
في المقابل، نفى مسؤول إيراني من محافظة قم، حيث يقع موقع فوردو، وقوع أضرار جسيمة، مؤكدًا أن المنشأة “لم تتضرر بشكل خطير”. هذا التباين في التصريحات يزيد من صعوبة تقييم الوضع الفعلي ويطرح تساؤلات حول الأهداف الحقيقية للضربة ونتائجها.
وأكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عدم تسجيل أي تسرب إشعاعي من المواقع المستهدفة، مما يشير إلى أن الضربة لم تؤثر على السلامة الإشعاعية للمنشآت. وتشير تقارير من مصادر إخبارية مثل سكاي نيوز والجزيرة إلى أن الهجوم “أبطأ تقدم البرنامج النووي الإيراني” لكنه لم يوقفه تمامًا، حيث لا يزال موقع فوردو يشكل “تهديدًا قائمًا”، مما يعني أن إمكانية استئناف العمليات النووية لم تُستأصل بالكامل.
ضربة مؤلمة وليست قاضية
تتداول تقارير صحفية من مصادر مثل الغارديان وهآرتس وإن بي سي أن الضربة أصابت منشآت حول فوردو دون تأكيد اختراق التحصينات بالكامل، بينما أظهرت صور الأقمار الاصطناعية “أضرارًا سطحية” في أجزاء من المجمع دون انهيار شامل.
وبتحليل المعلومات المتاحة، لا توجد أدلة قاطعة على “تدمير كامل” للمنشآت تحت الأرض في فوردو. ويبدو أن الضربة تسببت في أضرار محدودة، ربما شملت أنظمة الطاقة أو التبريد، لكنها لم تدمر الهيكل التحصيني الرئيسي، وفقًا للتقارير المتوفرة حتى الآن.
وفي تقرير سابق نشرته واشنطن بوست في 17 يونيو/حزيران (قبل الضربة)، أشار محللون عسكريون إلى أن موقع فوردو، نظرًا لعمقه الجيولوجي، قد يصعب تدميره بالكامل حتى باستخدام القنابل الخارقة للتحصينات. هذه التقديرات تفسر لماذا لم تدّعِ واشنطن القضاء الكامل على الموقع، بل اكتفت بالحديث عن “إبطاء” البرنامج النووي الإيراني.
المعرفة العلمية لا تُقصف
يؤكد الخبراء أن البرنامج النووي الإيراني ليس مجرد منشآت وأجهزة، بل يشمل بنية معرفية مكونة من آلاف المهندسين والعلماء، بالإضافة إلى بنية تحتية موزعة جغرافيًا. ويشير الخبير النووي ماثيو بون من جامعة هارفارد إلى أن الضربات العسكرية قد تدفع إيران إلى الاعتقاد بأن امتلاك الردع النووي هو الضمانة الوحيدة لأمنها، مما قد يسرع من سعيها للتسلح بدلاً من إيقافه.
وحتى أكثر التقييمات تفاؤلاً، مثل تقرير صحيفة إسرائيل هيوم (20 يونيو/حزيران 2025)، وصفت الضربة بأنها “إبطاء وليس استئصالًا”، نظرًا لقدرة إيران على إعادة بناء البنية التحتية بدعم من حلفائها مثل روسيا والصين، فضلاً عن امتلاكها شبكات توريد بديلة.
هل نشهد صمتًا نوويًا؟
ما حدث يمكن وصفه -وفقا لمراقبين- بأنه ضربة “مؤثرة لكن غير حاسمة”، وفقًا لخبراء. فقد تضررت بعض المنشآت وتباطأت بعض العمليات الفنية، لكن البرنامج النووي لم ينتهِ لأنه قائم على المعرفة البشرية المخزنة في العقول والمختبرات تحت الأرض.
ويرى مراقبون أن الضربة قد تدفع إيران إلى تحويل برنامجها من “قابل للمراقبة” إلى برنامج أكثر سرية، مما قد يعني انسحابها من المفاوضات الدولية واعتماد سياسة “الصمت النووي”.
كما قالوا: ” إن البرنامج النووي الإيراني قد انتهى هو مجرد أمنية سياسية وليس حقيقة استراتيجية. فالأرجح أن البرنامج لم يُستأصل، بل توقف مؤقتًا أو تغير شكله، لكنه لم يختفِ”.