مع بداية شهر يوليو، اجتمع كبار المصرفيين المركزيين في العالم في منتجع “سينترا” الفاخر بالبرتغال، حيث تصدرت مناقشاتهم مسألة محورية: هل سيواصل الدولار الأميركي انخفاضه؟، وسرعان ما تحول هذا السؤال إلى تساؤل أوسع نطاقاً: هل نشهد بداية النهاية لهيمنة الدولار على النظام المالي العالمي؟
يأتي هذا النقاش في وقت انخفض فيه الدولار إلى أدنى مستوياته أمام العملات الرئيسية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتحديدًا منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة في يناير. فقد أدت سياساته التجارية المتقلبة وتهديداته بفرض تعريفات جمركية إلى تقويض ثقة المستثمرين في استقرار الدولار، ودفعهم إلى تنويع احتياطاتهم بعيداً عن العملة الأميركية.
لكن، هل يعود ضعف الدولار فعلاً إلى سياسات ترامب فقط؟ الحقيقة أن الدولار كان في السابق مرتفعًا بشكل استثنائي، لذا فإن هذا التراجع قد يكون مجرد تصحيح لمساره. فعند النظر إلى مدى أطول، لا يزال الدولار قويًا نسبيًا أمام عملات مثل اليورو والإسترليني والين والرنمينبي.
بحسب المؤشرات، انخفض الدولار بنسبة 9% منذ يناير، منها 4.5% خلال أبريل وحده. ومع ذلك، لا يزال مؤشر الدولار قريبًا من مستوياته التي كان عليها قبل عشر سنوات، حتى بعد الهزات التي خلّفتها السياسات الجمركية لترامب.
السبب الحقيقي للانخفاض؟
التحليل الاقتصادي يشير إلى تباطؤ الاقتصاد الأميركي كعامل أساسي. هذا التباطؤ يدفع بالاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى التفكير في خفض أسعار الفائدة الأساسية، لتقليل تكلفة الاقتراض وتنشيط النمو الاقتصادي. غير أن هذا التوجه يواجه مقاومة داخلية في البنك بسبب مخاوف من ارتفاع التضخم. فاللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) منقسمة بين من يريد دعم الاقتصاد عبر الفائدة المنخفضة، ومن يخشى التضخم ويطالب بالإبقاء على المعدلات مرتفعة.
لكن في النهاية، تزداد التوقعات بأن يُقدِم الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة خلال الأشهر المقبلة، مما سيُضعف جاذبية الأصول المقوّمة بالدولار، ويُبقي الضغط على العملة الأميركية مستمراً.
ورغم ذلك… الدولار ما زال يهيمن
حتى الآن، لا تزال هيمنة الدولار بعيدة عن الانهيار. فهو لا يزال يُشكّل 58% من احتياطيات البنوك المركزية حول العالم، وهي نسبة تفوق بكثير حصة اليورو التي لم تتجاوز 20%. ورغم الطموحات الأوروبية التي عبّرت عنها رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، والتي تحدّثت عن إمكانية تحوّل اليورو إلى بديل عالمي، فإن الواقع لا يعضد تلك الطموحات.
فالأرقام تكشف أن أوروبا تغوص في ركود اقتصادي؛ ألمانيا سجّلت صفرًا في النمو، وفرنسا 0.6%، وإيطاليا 0.7%. مقارنة بذلك، تحقق الولايات المتحدة وكندا معدلات نمو مضاعفة تقريبًا، 2.0% و2.3% على التوالي. حتى مع تباطؤ الاقتصاد الأميركي، يبقى أفضل حالًا من كبرى اقتصادات أوروبا.
دولار ضعيف أم اقتصاد عالمي أكثر ضعفًا؟
الحديث عن “ضعف الدولار” يجب ألا يغفل ضعف منافسيه. الصين، رغم قوتها التصنيعية، لا تزال عملتها تحت رقابة صارمة؛ واليورو، رغم مكانته، مرهون بتعافي اقتصادي هش. أما العملات البديلة الأخرى مثل الين والرنمينبي، فلا تزال بعيدة عن الثقة الكافية لتكون عملات احتياط عالمية منافسة.
إذاً، هل بدأ عصر ضعف الدولار؟ ربما دخل الدولار مرحلة تراجع نسبي، لكنه لا يزال يتمتع بأركان قوة لا تملكها عملات أخرى: الاستقرار المؤسسي، عمق الأسواق المالية الأميركية، والثقة الدولية. ومع أن واشنطن قد تفقد بعض الامتيازات الاقتصادية المرتبطة بسيطرتها على العملة العالمية، فإن “الامتياز الباهظ” ما زال قائمًا، وإن بشكل أقل سطوعًا.
في المحصلة، قد تتغير موازين العملات نسبياً، لكن لا دلائل قاطعة على أننا نعيش نهاية عصر الدولار. بل إن الاقتصاد العالمي لا يزال يبحث عن بديل يملك قوة تكافئ الدولار، وما لم يظهر هذا البديل، ستظل الورقة الخضراء—حتى وهي تتراجع—أقوى من كل منافسيها.