منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، توجه النظام السوري الذي كان يرأسه الطاغية بشار الأسد، إلى تعزيز تحالفاته مع القوى الداعمة له، وعلى رأسها روسيا وإيران، بهدف ضمان بقائه في وجه القوى الداخلية والخارجية المعارضة له.
تنازلات كبرى
وقد أثمرت هذه التحالفات عن توقيع سلسلة من الاتفاقيات في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلا أن العديد من هذه الاتفاقيات، بحسب ما ورد في تقارير رسمية وأخرى إعلامية واستقصائية، تضمنت تنازلات كبيرة أثرت على السيادة الوطنية السورية، وأثارت جدلاً واسعاً بين السياسيين والحقوقيين، نظراً لعدم توازنها، ولأنها أُبرمت في ظروف استثنائية دون رقابة مؤسساتية.
يعرض هذا التقرير أبرز هذه الاتفاقات مع توثيق لمصادر المعلومات من خلال تصريحات رسمية وتقارير إعلامية منشورة، ووثائق حكومية أو برلمانية، محلية ودولية.
أولاً: الاتفاقات بين سوريا وروسيا
اتفاق قاعدة حميميم الجوية (2015)
نشرت الجريدة الرسمية الروسية في يناير 2016 نسخة من الاتفاق الموقّع بين وزارة الدفاع الروسية ونظيرتها السورية، والذي يجيز لروسيا استخدام قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية بشكل مجاني بالكامل، ومن دون تحديد مدة زمنية واضحة.
وتمنح الاتفاقية، كما ورد في النص المنشور في صحيفة “روسيسكايا غازيتا” الرسمية، حصانة قانونية كاملة للعسكريين الروس، وتُعفيهم من الخضوع لأي إجراءات قانونية سورية، كما تمنع السلطات السورية من تفتيش المعدات والطائرات الروسية.
اتفاق قاعدة طرطوس البحرية (2017)
في يناير 2017، أقر مجلس الدوما الروسي اتفاقا يمنح موسكو حق الاستخدام الحصري لقاعدة طرطوس البحرية لمدة 49 سنة قابلة للتمديد التلقائي.
وبحسب تقرير منشور في وكالة “نوفوستي” الروسية، فإن الاتفاق يسمح لروسيا بنشر 11 سفينة حربية، بما فيها تلك التي تعمل بالطاقة النووية، مع إعفاء تام من الضرائب والرسوم الجمركية السورية، ومنع الدولة السورية من التدخل أو المراقبة.
الاتفاقات الاقتصادية الروسية طويلة الأجل
في إبريل 2019، أعلن وزير النقل السوري علي حمود، في تصريح لوكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”، عن توقيع عقد مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية لاستثمار مرفأ طرطوس لمدة 49 سنة.
كما نقلت صحيفة “الوطن” السورية في فبراير 2018 أن الحكومة السورية منحت الشركة ذاتها عقد استثمار مناجم الفوسفات في منطقة الشرقية قرب تدمر، بنسبة تقاسم أرباح يُقدَّر أن تحصل سوريا بموجبها على نحو 30 بالمئة فقط.
تقارير اقتصادية من مركز جسور للدراسات ومركز عمران للدراسات الاستراتيجية وصفت هذه الاتفاقات بأنها تمت دون شفافية، وبشروط اقتصادية غير متكافئة.
الاتفاقات بين سوريا وإيران
1- الاتفاقات الأمنية والعسكرية
منذ عام 2012، بدأت تقارير من صحيفة “الغارديان” البريطانية و”نيويورك تايمز” الأمريكية تشير إلى انتشار ميليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني، منها “حزب الله” اللبناني، ولواء “فاطميون” الأفغاني، و”زينبيون” الباكستاني، داخل الأراضي السورية.
وأكّدت تقارير لمنظمة هيومن رايتس ووتش أن هذه الجماعات كانت تنشط في دعم العمليات العسكرية للنظام السوري، وغالباً بتفاهمات مباشرة مع القيادة السورية، رغم عدم وجود إعلان رسمي متكامل.
وفي مقابلة نُشرت في وكالة “فارس” الإيرانية عام 2016، صرّح قائد فيلق القدس آنذاك، قاسم سليماني، أن “وجودنا في سوريا جزء من اتفاق استراتيجي مع القيادة السورية لمحور المقاومة”.
الاتفاقات الاقتصادية والتجارية
في يناير 2017، وخلال زيارة وفد حكومي إيراني إلى دمشق، وقّع الطرفان خمس اتفاقيات اقتصادية، شملت مشاريع زراعية وصناعية واتصالات.
وذكرت وكالة “تسنيم” الإيرانية أن من بين هذه الاتفاقات منح إيران رخصة تشغيل الشبكة الخلوية الثالثة في سوريا، إضافة إلى تخصيص أراضٍ في محافظات ريف دمشق واللاذقية لإقامة مشاريع صناعية إيرانية.
وفي عام 2020، أعلن وزير الاقتصاد السوري حينها، سامر الخليل، في تصريح لـ”سانا”، أن هذه الاتفاقات تأتي “رداً للجميل الإيراني”، وهو ما يعكس بوضوح العلاقة غير المتكافئة بين الطرفين.
التغلغل الثقافي والتعليمي
في عام 2019، أعلنت وزارة التربية السورية إدراج اللغة الفارسية كمادة اختيارية في المدارس الثانوية، خصوصا في دمشق واللاذقية، كما نشر ذلك موقع “الوطن أونلاين”.
وجاء هذا القرار بعد توقيع اتفاقية ثقافية بين وزارتي التربية في إيران وسوريا، وترافقت هذه الخطوة مع تقارير محلية لمنظمات مجتمع مدني مثل “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، تفيد بانتشار المراكز الثقافية الإيرانية، خصوصا في منطقتي السيدة زينب وريف حمص، ما وُصف بأنه مشروع تغلغل ثقافي وأيديولوجي.
امتيازات غير مسبوقة
من خلال استعراض هذه الاتفاقات يتبين أن طبيعتها تتجاوز الدعم العسكري والتقني العابر، إلى ما يشبه التحالفات الاستراتيجية طويلة الأجل، والتي مُنح فيها الطرفان الروسي والإيراني امتيازات غير مسبوقة، سواء على المستوى السيادي أو الاقتصادي أو الثقافي.
ومعظم هذه الاتفاقات لم تُعرض على البرلمان السوري أو تُنشر في الجريدة الرسمية السورية، وإنما كُشف عنها لاحقاً عبر الإعلام الروسي أو الإيراني أو من خلال تسريبات من مسؤولي النظام.
علاقات غير متكافئة
هذا النمط من الاتفاقات، التي جرت في ظل حرب مدمّرة وظروف غير متوازنة، قد يكون قدّم للنظام السوري حلَّا آنياً لمشكلة البقاء، لكنه أوقع الدولة السورية في علاقات غير متكافئة، يمكن أن تؤثر على استقلال القرار السياسي والاقتصادي والسيادي لعقود قادمة.
وبالتالي، فإن أي عملية سياسية مستقبلية تهدف إلى إصلاح بنية الدولة السورية يجب أن تشمل مراجعة دقيقة لهذه الاتفاقات، والتعامل معها في إطار المصلحة الوطنية، مع إعادة تقييمها وفق القانون السوري ومعايير السيادة الوطنية.