في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الخداع الاستراتيجي خلال الحرب الباردة، طرحت تطورات الأيام الأخيرة تساؤلات خطيرة في الأوساط الدبلوماسية والعسكرية الدولية:
هل وقعت إيران في “فخ سياسي” نصبت خيوطه واشنطن وأحكمت تنفيذه تل أبيب؟
ففي تصريحات صادمة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الثلاثاء، أعلن أن هدفه الحقيقي ليس وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، بل “إنهاء البرنامج النووي الإيراني بالكامل”.
وقال ترامب بوضوح:
“أنا لا أبحث عن وقف لإطلاق النار مع إيران، بل عن نهاية حقيقية لبرنامجها النووي”.
هذه التصريحات جاءت بعد ساعات فقط من تصاعد حدة الضربات الإسرائيلية، واغتيال أبرز القيادات العسكرية الإيرانية، على رأسهم علي شادماني، رئيس هيئة أركان الحرب الذي عُين قبل أيام، في قصف جوي وسط طهران.
خدعة التفاوض؟
لكن المثير للجدل، أن هذه التطورات جاءت متزامنة مع ما كان يبدو على السطح بأنه انفراجة دبلوماسية. إذ كانت طهران تستعد للدخول في جولة جديدة من المفاوضات مع واشنطن، بوساطة أوروبية، حول مستويات تخصيب اليورانيوم.
وفقًا لتسريبات نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، نقلًا عن دبلوماسيين أوروبيين وعرب، فإن وزير الخارجية الإيراني كان قد أبلغ عدداً من السفراء بأن ترامب ومبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف أوحيا للإيرانيين بأن التفاوض قد يمنع اندلاع الحرب مع إسرائيل.
لكن ما حدث فعليًا، هو العكس تمامًا. فبينما كانت إيران تُحضّر مقترحًا جديدًا لتقديمه إلى الجانب الأميركي، باغتت إسرائيل طهران بأعنف موجة اغتيالات جوية تطال كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين، في ضربة قلبت الطاولة على طهران، ووضعتها في موقع الدفاع الكامل.
انسحاب مفاجئ.. ثم نيران مشتعلة
تعزز هذه الفرضية تصرّفات ترامب نفسه، إذ انسحب بشكل مفاجئ من قمة مجموعة السبع في كندا يوم الاثنين، وتوجه إلى واشنطن “للتعامل مع تطورات الوضع الإيراني”، بحسب ما نقلته شبكة CBS الأميركية.
وألمح ترامب إلى احتمال إرسال مبعوثه أو نائبه “جي دي فانس” للقاء الإيرانيين، لكنه ربط ذلك بما سيجري على الأرض عند عودته.
أما على الأرض، فكانت إسرائيل قد بدأت بالفعل موجة تصعيد واسعة، تضمنت اغتيالات مباشرة داخل العاصمة طهران، وقصف منشآت نووية وأمنية، وتهديدات مباشرة باستهداف المرشد الإيراني علي خامنئي نفسه، كما ألمح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مؤخرًا.
فخ استراتيجي… وكارثة استخباراتية؟
قبل أسبوع واحد فقط، حذّر نواب في البرلمان الإيراني، في بيان رسمي، من أن الولايات المتحدة تسعى لتحويل المحادثات النووية إلى “فخ استراتيجي”، إلا أن هذه التحذيرات لم تلقَ ما يكفي من الجدية، وسط رغبة طهران في انتزاع تخفيف للعقوبات الأميركية عبر التفاوض.
لكن، كما يبدو الآن، فإن القيادة الإيرانية فوجئت تمامًا بحجم الهجوم الإسرائيلي. إذ كشفت تقارير استخباراتية أوروبية أن كبار مستشاري خامنئي لم يتوقعوا ضربات بهذا الحجم، أثناء الانخراط في المحادثات، وهو ما يطرح تساؤلات عن وجود “اختراق استخباراتي” داخل دوائر صنع القرار في طهران.
من التفاوض إلى التصعيد المفتوح
في المقابل، ترى مصادر عسكرية في واشنطن أن استراتيجية ترامب الحالية تهدف إلى دفع إيران للتصرف بتهور عسكري يبرر تحركًا أميركيًا أكبر لاحقًا، خاصة إذا ما وُجهت ضربات للعمق الإسرائيلي.
ويتوقع مراقبون أن يكون التخلي الأميركي عن فكرة “الوساطة” مجرّد غطاء سياسي لتوفير مساحة لإسرائيل لمواصلة عملياتها، دون تدخل أميركي مباشر حتى الآن.
نهاية اللعبة؟
ما بين فشل حسابات طهران، وتضليل سياسي من واشنطن، وضربات موجعة من تل أبيب، يجد النظام الإيراني نفسه أمام أزمة استراتيجية غير مسبوقة:
التراجع يعني هزيمة سياسية وعسكرية.
والتصعيد قد يفتح بوابة حرب إقليمية شاملة.
وفي كلتا الحالتين، تبدو الولايات المتحدة -على لسان ترامب- قد وضعت يدها على مفاصل اللعبة: الحرب لا تحتاج إلى مشاركة مباشرة، طالما أن حليفها الأقرب ينجز المهمة.
والتفاوض؟ قد يكون كان مجرّد ورقة تمزيق الهدنة… لا توقيعها.