يُعَدُّ كتاب “هموم داعية” للشيخ محمد الغزالي (1917 – 1996) واحدًا من أصدق ما كتب الداعية والمفكر الكبير عن هموم العمل الإسلامي ومشكلاته الداخلية والخارجية.
هو ليس مجرد نصائح وعظية أو صفحات من الذكريات، بل شهادة فكرية وتربوية جريئة، دوّن فيها الغزالي خلاصة تجربته الطويلة في الميدان الدعوي، وأبرز التحديات التي واجهته، وقراءته النقدية للمشهد الإسلامي والعالمي في عصره.
المؤلف: بين الفكر والميدان
الشيخ محمد الغزالي، أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وعضو بارز في جماعة الإخوان المسلمين في شبابه قبل أن يفارق صفوفها، تميز بأسلوب أدبي رفيع، وقلم جريء، ونظرة إصلاحية شاملة. عاش حياته بين التدريس والخطابة والتأليف، وسافر في مهمات دعوية إلى أنحاء العالم الإسلامي، ما جعله شاهدًا حيًّا على تحولات الفكر والحركات الإسلامية في القرن العشرين. كتب أكثر من خمسين مؤلفًا، من أبرزها: جدد حياتك، فقه السيرة، قذائف الحق، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، وكتابنا هذا هموم داعية.
فكرة الكتاب ومضمونه
جاء الكتاب في صورة مقالات وخواطر فكرية كتبت على مدى سنوات، تتناول مشكلات الداعية في مجتمعه، وعلاقته بالناس، وموقفه من الحكومات، وصراعه مع التيارات الفكرية المخالفة، إضافة إلى نقده لبعض المظاهر السلبية في صفوف الإسلاميين أنفسهم.
الغزالي هنا يتحدث بلسان “الداعية الإنسان” لا “الواعظ المعزول عن الواقع”، فيطرح أسئلة حساسة:
لماذا تفشل بعض الدعوات رغم إخلاص أصحابها؟
كيف تتكون صورة مشوهة عن الإسلام بسبب تصرفات بعض المنتسبين إليه؟
ما خطورة الجمود الفكري والانغلاق على العمل الدعوي؟
أهم المحاور والأفكار
1- التجربة الميدانية: يروي الغزالي تجاربه في الخطابة والتدريس، وما واجهه من مواقف محرجة أو صدامات فكرية، وكيف تعامل معها بحكمة أو أحيانًا بمرارة.
2- النقد الذاتي: يفتح النار على بعض الدعاة الذين يقفون عند قشور الدين ويتركون جوهره، أو الذين يخلطون بين الحماس والتهور.
3- المواجهة الفكرية: يعرض نماذج من حواراته مع خصوم الفكر الإسلامي، من علمانيين وشيوعيين ومستشرقين، وكيف كان يرد بالحجة والبرهان.
4- التوازن بين النص والواقع: يركز على أن الداعية لا بد أن يفهم الواقع قبل أن يسقط عليه النصوص، وأن الفقه في الدين يشمل فقه النفس والمجتمع.
5- البعد الإنساني للداعية: يحكي عن لحظات ضعفه، وعن الآلام النفسية التي تصاحب من يسير في طريق الدعوة وسط الجحود أو سوء الفهم.
أبرز الفصول والمقولات
فصل “أزمات الخطاب الإسلامي”: يذكر فيه أن “الكلمة التي تخرج من قلب غافل لا تصل إلى قلب واعٍ”، في إشارة إلى ضرورة صدق الداعية وإيمانه بما يقول.
فصل “غربة الداعية”: يتحدث فيه عن الوحدة التي يعيشها صاحب الرسالة حين يختلف مزاج المجتمع مع قيمه.
فصل “ميدان الفكر”: يروي فيه مواجهاته الفكرية، قائلاً: “الحق يملك قوة ذاتية، لكنه يحتاج إلى لسان فصيح يحمله، وعقل راجح يذود عنه”.
فصل “إصلاح الداخل قبل الخارج”: يحذر فيه من أن الفوضى داخل الصف الإسلامي أخطر من سهام الخصوم في الخارج.
أسلوب الكتاب
يمتزج في الكتاب الأسلوب الأدبي الراقي مع القوة الجدلية، فتجد فيه العبارات الموجزة الحادة، إلى جانب الفقرات البلاغية المليئة بالصور الفنية. لغة الغزالي دائمًا مشحونة بالعاطفة، لكنها مدعومة بالمنطق الشرعي والعقلي، مما يجعل القارئ ينجذب للفكرة ويعيش معها وجدانيًا وفكريًا.
أهمية الكتاب
مرآة للداعية: يقدم صورة واقعية لمتاعب العمل الدعوي، بعيدًا عن المثاليات المفرطة.
درس في النقد الذاتي: يعلم الأجيال الجديدة من الدعاة أن يبدؤوا بإصلاح أنفسهم وصفوفهم قبل مواجهة الآخرين.
وثيقة فكرية: يسجل مرحلة مهمة من تطور الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، في مواجهة تحديات التغريب والاستبداد السياسي.
هموم داعية
“هموم داعية” ليس كتابًا ترفيهيًا، بل هو جرعة وعي وصدق وجرأة، يضع القارئ أمام حقيقة أن الدعوة ليست مجرد خطب أو شعارات، بل معاناة مستمرة، وصبر طويل، وبصيرة نافذة. وفي زمن يزداد فيه التشويش على العمل الإسلامي، يظل هذا الكتاب شاهدًا على تجربة عالم عاش الدعوة بكل جوارحه، وترك لنا مذكرات فكرية تصلح لأن تكون “دليل نجاة” لكل من يحمل همّ الرسالة.