في روايته الأخيرة “وادي الفراشات”، لا يقدّم الكاتب العراقي أزهر جرجيس حكاية مأساوية بالمعنى التقليدي، بل ينسج نصًا أدبيًا تنبض فيه الحياة وسط الخراب، وتورق فيه المعاني الإنسانية من قلب الألم، في سردية تتأرجح بين مرارة الواقع ودهشة الفكرة، بين سواد اليومي وبهاء الفراشات التي تطير من المقابر.
صدرت الرواية عن دار الرافدين عام 2024، ووصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، كدليل على قدرتها في ملامسة وجدان القارئ العربي، ليس فقط بما تحمله من عمق سردي، بل بما تطرحه من أسئلة عن الهوية والمصير والنجاة الشخصية.

تدور أحداث الرواية حول “عزيز عواد”، شاب عراقي يمر برحلة حياة مليئة بالخذلان، تبدأ منذ صباه حين يُفجع بغياب والده، وتستمر حتى مرحلة الشباب، مرورًا بالجامعة والحب والزواج والعمل والسجن والفقد. ورغم كل العثرات، فإن ما يميّز الرواية هو أنها لا تحتفي باليأس، بل تمنحنا عبر كل انهيار شقًا من النور.
تتخلّق جماليات الرواية من ثنائية الحياة والموت التي تحكم العالم الداخلي للبطل، ومن الرمز الشعري الذي يمنحه الكاتب لحدث يبدو قاسيًا، حين يتحوّل دفن الأطفال المنسيين إلى طقس تطهيري، فتنبعث جثثهم على هيئة فراشات ملونة في فضاء وادٍ خفي، اسمه “وادي الفراشات”، رمزًا لكل أولئك الذين تجاهلتهم الحياة ولم تنصفهم الظروف. إنها استعارة مذهلة عن براءة تُبعث من جديد، وعن إمكانية الخلاص حتى في أكثر الأماكن ظلمة.
الكاتب، الذي خبر المنفى والتهديد والكتابة تحت ضغط الحياة، لا يدوّن سيرة عزيز عواد بوصفها مرآة للمأساة العراقية فقط، بل يعيد بها الاعتبار للإنسان الذي يبحث عن معنى، ولو وسط الخراب. فالشخصيات في الرواية – من خاله جبران الذي يملك مكتبة، إلى صديقه مهند الذي يتحوّل إلى صورة دينية متطرفة، إلى تمارا التي أحبّها ثم فقدها – كلها أطياف لعلاقات تتكوّن وتتكسّر حوله، لكنها لا تطفئ فيه الرغبة في البقاء.
اللغة في الرواية قوية ومُتقنة، لكنّها ليست متكلفة. تنزلق في بعض الأحيان إلى العامية، لكنها تحتفظ بموسيقية رشيقة تجعل القراءة تنساب كما لو كانت سردًا شفيفًا يُحكى في جلسة مسائية. وتبقى السخرية حاضرة، لكن كقناع يحجب الحزن العميق، وليس كأداة تدمير، إذ يضحك القارئ ليهرب من أنين عزيز، أو ربما من أنينه الشخصي.
في لحظة يبدو فيها كل شيء منتهيًا، بعد الفقد والطلاق والسجن والتهم التي لم يرتكبها، يتساءل عزيز: هل ينتحر؟ أم أن ثمة بابًا لا يزال مشرعًا للضوء؟ هنا، تتجلى عظمة الرواية. ليس في سؤال الموت، بل في اختيار الحياة برغم كل شيء.
أزهر جرجيس، في “وادي الفراشات”، يقدّم رواية عن الإنسان لا عن العراق فقط. رواية تقول لنا إن الإنسان، في النهاية، ليس ضحية تاريخه، بل هو القادر – ولو بخطوات بطيئة – على أن يصنع لمعاناته معنى، ولجراحه جناحين.
هي رواية للباحثين عن العزاء في زمن فقدان المعنى، وللذين يؤمنون أن حتى أكثر الأرواح بؤسًا، قد تحمل في طيّاتها بذرة جمال تنتظر فقط أن تهبّ نسمة، لتُزهر.