في المرتفعات الشاهقة حيث تلتقي حدود الصين والهند، تقف نيبال كدولة محورية في معادلة القوى الآسيوية المتغيرة.
تقود الولايات المتحدة الأمريكية دبلوماسية خفية وناعمة لاستغلال التوترات التاريخية وتحويل هذا البلد الصغير إلى ساحة جديدة للمواجهة.
تهدف هذه الاستراتيجية إلى إرباك العملاقين الصيني والهندي وخلق قلاقل على حدودهما مما يعطلهما عن التقدم العسكري السريع ويعيد تشكيل تحالفات المنطقة لصالح الهيمنة الأمريكية.
الخلفية التاريخية للتدخل الأمريكي في نيبال
لم يكن تدخل واشنطن في شؤون نيبال وليد اللحظة، بل هو جزء من استراتيجية ممتدة بدأت مع دعمها للحكومة الملكية في مواجهة الماويين، ثم تحولت إلى دعم بعض الأطراف السياسية بعد إقرار النظام الجمهوري، هدف هذه الاستراتيجية هو منع نيبال من الانزلاق الكامل نحو النفوذ الصيني أو الهندي والحفاظ على حالة من عدم الاستقرار المعتدل الذي يضمن تبعية البلاد للغرب ويجبرها على طلب المساعدة الأمريكية في مختلف المجالات.
استراتيجية الفوضى الخلاقة على حدود العملاقين
تعتمد الاستراتيجية الأمريكية على مبدأ الفوضى الخلاقة عبر تأجيج النزاعات العرقية والمناطقية داخل نيبال والتي تمتد جذورها إلى الحدود مع التبت الصينية والمناطق الشمالية للهند، وتعمل واشنطن عبر منظمات المجتمع المدني الممولة من وكالاتها على دعم حركات انفصالية ومطالبات بالحكم الذاتي لخلق بيئة من عدم اليقين الأمني.
هذا الاضطراب الداخلي يدفع بكين ونيودلهي إلى تحويل موارد عسكرية وأمنية كبيرة لمراقبة وتأمين حدودهم مع نيبال بدلاً من توجيهها للتحديث العسكري أو التوسع الاستراتيجي في مناطق أخرى.
إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية لصالح واشنطن
الهدف الأعمق للسياسة الأمريكية هو كسر أي تقارب محتمل بين الصين والهند اللتين تشتركان في حدود طويلة ومتنازع عليها.،
وتسعى واشنطن إلى تعميق هوة عدم الثقة بينهما من خلال تقديم نيبال كمنطقة نفوذ محتملة لأي منهما عبر اتفاقيات اقتصادية وعسكرية تظهر وكأنها موجهة ضد الأخرى.
وتقدم الولايات المتحدة نفسها كحليف استراتيجي وبديل لكل من الهند التي تخشى تطويقها من قبل الصين، والصين التي تسعى لمنع الهند من التحالف مع الأمريكيين بشكل كامل.
النتائج المتوقعة والتحديات المستقبلية
إذا نجحت الاستراتيجية الأمريكية فسوف تنجح في إبطاء وتيرة التقدم العسكري الصيني الهندي من خلال إجبارهما على الإنفاق أكثر على أمنهما الحدودي الداخلي، كما ستعيد رسم خريطة التحالفات في جنوب آسيا لصالح حلف الناتو والولايات المتحدة، إلا أن هذه اللعبة محفوفة بمخاطر كبيرة فكل من الصين والهند تدركان هذه الاستراتيجية، وقد تدفعهما إلى مزيد من التنسيق الثنائي لطرد النفوذ الخارجي،
كما أن شعب نيبال نفسه قد يرفض أن يكون أداة في صراع القوى العظمى مما قد يؤدي إلى عواقب عكسية على المصالح الأمريكية على المدى الطويل.
تمثل نيبال نموذجاً للصراع الجيوسياسي الحديث، ولم تعد ساحات الحرب تقليدية، وتتلاعب واشنطن بالخيوط السياسية والاجتماعية في هذا البلد الجبلي لتحقيق أهداف استراتيجية كبرى تتمثل في إرباك منافسيها الرئيسيين في آسيا، بينما تسعى الصين والهند بدورهما لحماية حدودهما ومصالحهما مما يجعل من منطقة الهيمالايا واحدة من أكثر بؤر العالم توتراً والتي ستشهد تطورات مصيرية في السنوات القادمة.
الرد الصيني (التركيز على الاستقرار والاقتصاد)
التعزيز الاقتصادي والاستثماري: ستركز الصين على تعزيز وجودها في نيبال من خلال استثمارات أكبر في البنية التحتية كجزء من مبادرة “الحزام والطريق”. ستعمل على ربط الاقتصاد النيبالي بشكل أوثق باقتصادها، مما يجعل التوجه نحو الغرب مكلفًا على نيبال. الرد اقتصادي في المقام الأول ليكسب القلوب والعقول.
التعاون الأمني الثنائي المحدود: قد تزيد الصين من تعاونها الأمني مع نيبال، بتقديم معدات وتدريبات للجيش النيبالي، ولكن بحذر شديد لتجنب إثارة حفيظة الهند والظهور كطرف عدواني. هدفها هو ضمان ألا تتحول نيبال إلى قاعدة معادية لها.
الضغط الدبلوماسي الخفي: ستستخدم الصين نفوذها الدبلوماسي في المحافل الدولية لدعم الحكومات في نيبال التي تتبنى سياسات موالية لها، والعكس بالعكس.
تجنب المواجهة المباشرة: من غير المتوقع أن ترد الصين برد عسكري مباشر أو بتهديد صريح ما لم يتم تجاوز خط أحمر واضح (مثل إقامة قاعدة أمريكية). استراتيجيتها هي “الاستيلاء” السلمي على النفوذ عبر الاقتصاد.
الرد الهندي (القلق الأمني والمنافسة على النفوذ)
مزيج من الاحتواء والاحتضان: ستتبع الهند سياسة ثنائية المسار. من ناحية، ستزيد من استثماراتها ومشاريعها التنموية في نيبال لمنعها من السقوط في الحضن الصيني أو الأمريكي (محاولة الاحتضان). ومن ناحية أخرى، ستشدد من مراقبة حدودها وتعمل على احتواء أي تهديدات أمنية محتملة (الاحتواء).
استخدام الروابط الثقافية والاجتماعية: ستعزز الهند من استخدام “القوة الناعمة” عبر الروابط الدينية والثقافية والاجتماعية التي تربط الشعبين، ومحاولة التأثير على الرأي العام النيبالي.
التنسيق مع القوى الأخرى (ربما بشكل غير مباشر): على الرغم من تاريخها الطويل في سياسة عدم الانحياز، فإن التهديد المشترك من النفوذ الصيني والتغلغل الأمريكي قد يدفع نيودلهي إلى زيادة تعاونها الأمني مع دول مثل الولايات المتحدة أو اليابان أو أستراليا في إطار ، ولكن من أجل موازنة الصين وليس بالضرورة لدعم الوجود الأمريكي في نيبال.
رد فعل أكثر حذرًا من الصين: لأن نيبال هي حديقة الهند الخلفية التقليدية وأي عدم استقرار هناك يؤثر عليها مباشرة. ردها سيكون أكثر قلقًا وربما أكثر فورية.
السيناريو الأكثر ترجيحًا (التنافس على كسب الولاء)
نيبال هي المستفيد الأكبر على المدى القصير: السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن تدخل نيبال في “دبلوماسية النوّادة” (دبلوماسية التلاعب بالطرفين)، حيث ستلعب القوى الثلاث (أمريكا، الصين، الهند) ضد بعضها البعض لتعظيم مكاسبها. ستطلب كاتماندو المساعدة الاقتصادية من الجميع وتعد كل طرف بأنها لن تنحاز بالكامل للآخر.
تصعيد غير مباشر: لن تشهد المنطقة حربًا ساخنة، ولكن حربًا على النفوذ عبر الاستثمارات والاتفاقيات الدبلوماسية والوعود بالتنمية. ستصبح نيبال ساحة للتنافس بين النماذج التنموية (النموذج الأمريكي، النموذج الصيني، النموذج الهندي).
خطر عدم الاستقرار الداخلي: الخطر الحقيقي هو أن هذا التنافس قد يغذي الانقسامات السياسية والعرقية الداخلية داخل نيبال نفسها، حيث قد يحاول كل طرف دولي دعم حلفائه المحليين، مما يؤدي إلى توترات داخلية قد تصل إلى العنف في أسوأ الحالات.