بحوث ودراسات

وقفات مع مقال «مداخل منهاجية حول الأحداث التي تمر بها الأمة المسلمة»

بقلم: د. وصفي أبو زيد

نشر مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية مقالا لفضيلة الأستاذ الكبير د. عصام البشير بعنوان: «مداخل منهاجية حول الأحداث التي تمر بها الأمة المسلمة»، بين فيه خطورة اللحظة التي تمر بها الأمة، وما يهددها في هويتها وعقيدتا ومقدساتها، وتكالُب الأعداء عليها، ودعا فيه إلى تحكيم منهج العلماء الراسخين الذي يراعي الأصول الكلية والقواعد الجامعة وأنواع الفقه الحضاري من فقه واقع ومآلات وأولويات ومقاصد؛ الأمر الذي يتعارض – كما قال – مع ما امتلأت به الساحة من: “قِراءاتٍ تَعَسُّفيَّةٍ غلبت عليها العاطفة والنّظر الجزئيّ الضيّق”، وهي مهمة العلماء الذين يرجع إليهم الناس في مثل هذه المدلهمات.

وانطلاقًا من مسئولية العلماء وواجبهم تجاه هذه الأحداث قدم الداعية الكبير والمفكر الجليل الأستاذ الدكتور عصام البشير رؤيته العامة المستندة إلى النظر الكلي والقواعد الجامعة، والتي اقتضت أن نؤجل الخلاف الطائفي دون نسيانه ولا التغاضي عنه، ونتصدى للعدو الأخطر الصهيوأمريكي الذي يشكل تحالفًا عالميًّا، بما يهدد أهل السنة في هويتهم وعقيدتهم، ويهدد وجودهم أصلا.

ثم انهالت الردود المكتوبة والمرئية على هذا المقال، وكالت الاتهامات والتخوين والتجريح الشخصي، بما يخالف الآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية، وأنه يسامح في دماء السوريين والعراقيين واليمنيين لأجل عيون الفلسطينيين وعيون نظام الخوميني، أو يقر سب عرض رسول الله والقول بتحريف القرآن، وأنه يشوه الوعي.. إلى آخر هذه الاتهامات والتجريح والتجاوز، والله يأمرنا بالعدل في القول فيقول سبحانه: ﴿وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُوا۟ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ﴾ [الأنعام ١٥٢].

وأود هنا أن أبين عددًا من الأمور:

أولا:

أن ما جرى من إيران وأذرعها ليس قراءات تعسفية تغلب عليها العاطفة، ولا إشكالًا ولا خلافًا، وإنما هو جرائم ومجازر عاناها الشعب السوري والشعب العراقي والشعب اليمني لسنين طويلة، مارست فيها إيران كل الجرائم التي لا تُتَخيل، وانتهكت كل المحرمات، وارتكبت جميع المجرمات التي لا يُمكن أن تنسى ولا يُتسامح فيها، مع خذلان كذلك من عموم الأمة، فليس راءٍ كمن سمعا، والإشكال أو الخلاف المقصود هو الخلاف الفكري أو العقدي، وليس تسميةً للجرائم المرتكبة بأنها إشكال أو خلاف، وهو ما يؤكده البند التالي، ولكن أين حسن الظن الذي أمرنا به، وحمل كلام العلماء على أحسن المحامل؟!

ثانيا:

أن المقال ورد فيه تقييدات واستدراكات تنفي كل هذه الاتهامات، ففي البند السادس يدعو إلى التصدي للمشروع الصهيوني، وقال: “مع تجريمِنا لما وقع من ظلم فادحٍ، وقتل شائِه، وتدمير مُمَنهج لإخواننا في الشّام والعراق واليمن”. وتأجيل الحديث عن جرائم إيران: “دون إسقاطها”. وفي نهايات المقال دعا إلى الاقتداء بحلف الفضول، وقال: “دون أن ينفي تقرير هذه الحقيقة الاختلاف الفكريّ أو العقديّ، ودون أن يرفع الملامة ويلغي المحاسبة على الجرائم الطائفيّة التي خلفت آلامًا وجراحًا ومفاسد في سوريا والعراق واليمن؛ إذ إنّ جراح الأمّة واحدة، وقضاياها مترابطة”.

فهل في هذا تجاوز عمن سب عرض رسول الله؟ وأين ورد في المقال نسيان ما ارتكبته إيران من جرائم؟ وأين تشويه الوعي؟ وأين التسامح في دماء العراقيين والسوريين واليمنيين؟! إن من يقرر أنه يلزم من هذا المقال نسيان ما حدث من جرائم وتجاوز الدماء والجرائم، كمن يقول على الجبهة الأخرى إن الفرح بمقتل حسن نصر الله هو فرح مع الصهاينة واصطفاف معهم!

ثالثا: أن المقاومة المقصودة بالخشية عليها من الانكسار في المقال – لا قدر الله! – ليست أذرع إيران في المنطقة، وإنما هي المقاومة الفلسطينية الغزية الباسلة التي تقوم بفرض الكفاية عن شرف الأمة كلها ومقدساتها، والتي تدفع من أمنها وأمانها، ودمائها وجراحها ما شهد خذلانًا عامًّا، بل تآمرًا واضحا من غالب الأنظمة العربية والإسلامية.

رابعًا:

أن موقف د. عصام البشير من الشيعة معلوم لدى أهل العلم، فقد كان مؤازرا لشيخنا الإمام القرضاوي في موقفه الأخير من الشيعة، ومعززا لرأيه الذي انتهى به إلى رفض فكرة التقريب ما دام الشيعة مقيمين على انتهاك مقدساتنا؛ بسب الصحابة، والتطاول على عرض رسول الله، والقول بتحريف القرآن، وغير ذلك.

وحين كان رئيسًا لمجمع الفقه الإسلامي في السودان أصدر بيانا بعنوان: “توصيات بشأن ملف المد الشيعي بالبلاد”، في جلسته المنعقدة بتاريخ 18 رجب 1434هـ الموافق 28 مايو 2013م، ذكر فيه ست توصيات قوية بشأن الشيعة وتجريم سعيها للتشييع، وتربية الطلاب في المدارس والجامعات على حب الصحابة وآل البيت، والتأكيد على أن السودان بلد سني لا مكان للشيعة فيه، كما أوصى في بنده السادس بـ: “سن قوانين تُجرّم وتعاقب سب الصحابة، وآل البيت، وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم”، والبيان منشور على الشبكة بعنوان: “مجمع الفقه الإسلامي بالسودان: أوصينا بمكافحة التشيّع منذ العام الماضي“، على موقع: “سودان تربيون” بتاريخ 4 سبتمبر 2014م، وأصدر الرئيس البشير وقتها قرار تم بموجبه إغلاق 26 مركزا ثقافيًّا تابعًا للسفارة الإيرانية، وفي هذا الخبر المشار إليه إشادة بهذا القرار.

كما أن للشيخ خطبة على اليوتيوب بعنوان: “مخالفات الشيعة“، والعديد من الخطب، فليراجعها من يشاء.

خامسا:

أن موقف د. عصام البشير من الثورة السورية معلن من أول أيام الثورة، وذلك في خطبه وفي مقالاته سواء، وقد كتب مقالًا في بدايات أيام الثورة بعنوان: “سوريا الباسلة وأجنحة الاستبداد“، نُشر في جريدة النيلين، ومما ورد فيه: “لم يعد الصمت خيارًا، وصور القتل بدم بارد لطالبي الحرية وناشدي العدل في سوريا تملأ الشاشات، وتطارد أصحاب الضمير وقد عزَّ النصير.. ولئن صمت الكثيرون فإنه لا يجوز للأمة السكوت، فضلاً عن طأطأة الرؤوس وغضِّ الطرف عما يجري في سوريا معقل الإسلام وموئل العلم ومحفل العلماء ودار الخلافة، إن سوريا قد حُرمت من نعمة الحرية طويلاً، وحيل بين شعبها وحياة الكرامة دهرًا، منذ أن حلَّ حكم الطائفة على السلطة في دمشق في ليل بهيم، مارس فيها العسف والتقتيل بحق أحرار سوريا”.

وقال أيضا: “فقد رأينا الدبابات تقتحم المدينة – يقصد حماة – دون مراعاة لحرمة الإنسان والعمران، ولم تنجُ من ذلك حتى نواعير حَماة الشهيرة، ويأبى الله إلا أن يبعث من تحت ركام الطغيان نور الحرية، إذ أهلَّ ربيعُها وغشيت نسماتُه سوريا؛ فعادت ذكرياتُ النهضة والعزة والكرامة تشد عزيمة الثائرين، وتتلو في أرواح الصابرين آيات التضحية والفداء؛ فخرجت الجماهير من دمشق واللاذقية ودرعا وحلب، ومن كل حواضر الشام وقراها، تطالب بعودة الحق للأمة، وأبت أجنحة الاستبداد إلا مواجهة الجماهير الثائرة بالدبابات وقاذفات الدروع، في ليالي رمضان ونهارات الصيام”.

وقال: “إن العسف الأمني قد تطاول، وعدد القتلى قد تجاوز الألفين، في وحشيّة باطشة، وهمجيّة موتورة يندى لها الجبين، الأمر الذي يستوجب على كل الأحرار والشرفاء استنكار ما يقع على هذا الشعب الأبيّ الأعزل، من قتل للأبرياء، واعتقال المتظاهرين سلماً، وانتهاك لحرمة المساجد والمصلين، المصادم لكل الشرائع السماوية والمواثيق العالمية، ودون مراعاة لخطورة إراقة الدماء وآثارها في الدنيا والآخرة”.

سادسا:

أن القول بتعظيم المصالح وتقليل المفاسد أمر متفق عليه بين علماء الأمة قديمًا وحديثًا، وهذا ما جاءت به الشريعة، وقد قال الإمام ابن تيمية: “إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان”، ولكن المشكلة تنبع من تقدير المصالح والمفاسد في الواقع نفسه، فهناك من يرى أن المشروع الشيعي أخطر من الصهيوني، وهناك من يرى العكس، وهذا يحتاج لمزيد من الحوار والتمحيص وتبادل الرأي للوصول إلى كلمة سواء، والوقوف على حقائق الأمور: نظرًا وعملًا، لا إلى الاتهامات والتجريح الشخصي وادعاء العلم، والذي أراه أن كلا المشروعين خطر على الأمة وعلى هويتها وعقيدتها، ولكن المشروع الصهوأمريكي أخطر وأكبر بكثير؛ فالمشروع الشيعي – واقعًا – رغم جرائمه غير المسبوقة، فهناك حصانة نفسية ضده لا سيما في بلاد الخليج: رمسيًّا وشعبيًّا؛ وهو ما تستخدم أمريكا إيران به فزاعة لحلب أموال بعض دول الخليج، أما المشروع الصهيوأمريكي فقد حط رحاله بحركة التطبيع التي أجهزت عليها معركة الطوفان، وربى عملاءه في قلب بلادنا العربية، وبخاصة دول الطوق، كما أنه مدعوم عالميًّا: أمريكيًّا وأوربيًّا، وقد رأينا الدعم المباشر والمفتوح والزيارات العاجلة والمستمرة من أمريكا ودول أوربا للكيان الغاصب!

سابعا:

أن التزاحم بين المصالح والمفاسد، وتقديم أعظم المصلحيتن، ودفع أكبر المفسدتين هو عين الفقه، والفقيه الحق يُعرف بهذا، وليس بالتمييز بين المصالح والمفاسد؛ فهذا يعرفه عامة الناس، وأن الفرد الواحد أو الجهة الواحدة قد تحسن وقد تسيء، فنشكر إحسانه، وننكر إساءته، وقد بين القرآن موقفا مثل هذا في مطلع سورة الروم بين قوتين معاديتين للإسلام لكن إحداهما كانت أفسد، وكان خطرها أعظم؛ فلما حزن المسلمون لهزيمة الروم – وهم الأقل خطرًا – وعدهم الله بالنصر، فقال تعالى: “﴿الۤمۤ (١) غُلِبَتِ ٱلرُّومُ (٢) فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ (٣) فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (٤) بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ یَنصُرُ مَن یَشَاۤءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ (٥)﴾ [الروم: 1-5].

ولنا في علماء التراجم والطبقات عبرة ومثل، فلم يكن يخفى عليهم اجتماع الخير والشر في الإنسان المترجم له، ولم يكن صعبًا على تصورهم أن يقف الإنسان موقف خير في حال، ويقف موقف شر في حال أخرى، ومن أقوالهم في التراجم: “كان يرى القدر.. ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله.. “، وقولهم: “وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه”، و”قويا شجاعا، ذا رأي وحزم، وفطنة، وفصاحة وله شعر جيد وكان ناصبيا، فظا، غليظا، جلفا”، و”فيه تشيع ظاهر، ومع هذا يبث هذا القول الحق”.

ثامنا:

أن مواقف الشعب السوري من قضية فلسطين لا يزايد عليها أحد، وحسبهم أن اسم المجاهد البطل عز الدين القسام سوري، وهو الذي اختلطت دماؤه بأرض فلسطين، ودفن في أرض فلسطين، وسميت الكتائب الباسلة اليوم باسمه، وأنه الشعب السوري العزيز تحت القصف الهمجي الصفوي ما نسوا قضية فلسطين ولا الشعب الفلسطيني، وكانوا يضحون بالغالي والنفيس دعما للشعب الغزي، وهم لا يجدون ما يأكلون ولا يشربون، متمثلين قول الله تعالى: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، بل يوم أمس بناسبة مرور عام على طوفان الأقصى أصدر المجلس الإسلامي السوري بيانا مشرفا يكشف عن أصالة معدن شعب سوريا وعلمائه تجاه قضية فلسطين.

تاسعا:

أننا يجب أن نتحلى بالتخلق بآداب الاختلاف، ورعاية مكانة العلماء، لا سيما في وقت الأزمات الكبرى التي نحياها، ونحسن الظن بهم وبإخواننا، ونحمل الكلام على أحسن محامله، وقد قال العلامة علي القاري في شرح الشفا: “قال علماؤنا: إذا وجد تسعة وتسعون وجهًا تشير إلى تكفير مسلم، ووجه واحد إلى إبقائه على إسلامه، فينبغي للمفتي، والقاضي أن يعملا بذلك الوجه”، لا سيما إنْ عُرف هؤلاء العلماء بتاريخ دعوي مقدور، وبعطاء فكري مشكور، وحمل هموم الأمة وقضاياها، وأن نحمل الكلام على المواقف، ونحمل المواقف على الكلام، ونفهم الجزئيات في مقال ما على مجمل السيرة والمسيرة، وقد قال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية: “من قواعد الشرع والحكمة أيضًا: أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره ؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث … وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم: أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها”. [مفتاح دار السعادة: 1/ 176].

عاشرا وأخيرا – وتلك عشرة كاملة -:

أن ما نمر به اليوم من أزمة كبرى لن يحلها التخوين والتجريح والتربص والتعالي والتطاول وسوء الظن، ولن يحلها منطق (سايكس – بيكو)، وإنما يحلها التوجه للعمل مع بث الوعي ودوام السعي بالأفعال التي تبطل كيد المشاريع المعادية للأمة والملة، كما حدد أهلنا في فلسطين عدوّهم، وبنوا له الأنفاق، ونصبوا له الكمائن، والأهم من هذا كله هو بذل الجهد المتواصل لبناء مشروع لهذه الأمة، وإيجاد رأس بديل لرأس الخلافة المهدور؛ لتكون راية سياسية جامعة.. نريد إقامة دولة تحمل مشروع أهل السنة، وتقاوم من أجله، وتبشر به، وتواجه به أعداء الأمة والملة، وبغير ذلك سنظل في هذا المنحدر الذي يحاصرنا، وفي هذه الحال البائسة التي ليس لها من دون الله كاشفة!

د. وصفي أبو زيد

أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى