أقلام حرة

وليد عبد الحي يكتب: إبادة الجنس في غزة بين جنوب افريقيا ومحكمة العدل

تحتفظ سجلات التاريخ بصفحات كثيرة من عمليات القتل الجماعي في اغلب ارجاء العالم، وتناولت الشرائع الدينية والفلسفات الاخلاقية هذا الموضوع، لكن انتقال الامر الى القانون الدولي تأخر حتى عام 1944، عندما صك القانوني البولندي Raphael Lemkin مصطلح “genocide” وفي عام 1945، وبفضل جهود ليمكين إلى حد كبير، تم إدراج كلمة “الإبادة الجماعية” في ميثاق المحكمة العسكرية الدولية التي أنشأتها قوى الحلفاء المنتصرة في نورمبرج بألمانيا، وفي 1946 اقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ادراج الابادة الجنسية ضمن الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي. وفي 1948 استقر تعريف الابادة الجنسية في الامم المتحدة بأنه “أي عدد من الأفعال “المرتكبة بقصد التدمير، كليًا أو جزئيًا، لمجتمع قومي أو اثني أو لجماعة عرقية أو دينية.” وشمل ذلك القتل أو التسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير لأفراد المجموعة، أو فرض ظروف معيشية تهدف إلى القضاء على الجماعة، أو فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات (أي التعقيم القسري) أو إبعاد أطفال المجموعة بالقوة، وتم التصديق على هذا القانون عام 1951 تباعا من قبل 130 دولة، ولم توقعه الولايات المتحدة الا عام 1988 وبعد معارضة شديدة من مجلس الشيوخ الذي اعتبره ” قيدا على السيادة الامريكية”.

وفي عام 1993 تم انشاء المحكمة الجنائية الدولية للنظر في موضوع الازمة اليوغسلافية (جرائم الصرب ضد البوسنيين والكروات) وفي 1994 تم النظر في موضوع مذابح الهوتو للأقلية من التوتسي في رواندا، وفي عام 1998 تمت اضافة عمليات الاغتصاب الجماعية الى جرائم ابادة الجنس. وقد وسع النظام الأساسي الدولي الذي تم التوقيع عليه في روما في عام 1998 تعريف الإبادة الجماعية وطبقه على أوقات الحرب والسلام، كما أنشأ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي بدأت جلساتها في عام 2002 في لاهاي (دون مشاركة الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا)، وبدأت منذ 2002 و2003 النظر في موضوع ابادة الجنس في كل من الكونغو والسودان.

وهنا لا بد من التنبه الى ان الابادة الجنسية تختلف عن التطهير العرقي (ethnic cleansing)، في ان الاولى تعني التدمير المادي والحيوي، بينما الثانية تعني تفريغ بقعة جغرافية من مجموعة بشرية محددة.

استنادا لهذه الخلفية، تقدمت جنوب افريقيا بدعوى قضائية في 30 ديسمبر الماضي أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، تتهم فيها اسرائيل بارتكاب جريمة «إبادة جماعية في قطاع غزة»، ودعا منطوق الدعوى الى وقف فوري للقتال، وحيث ان كلا من جنوب افريقيا واسرائيل منضمتان الى اتفاقية منع ومعاقبة الإبادة الجماعية لعام 1948 فأن ذلك يمنح المحكمة صلاحية النظر في الدعاوى المتعلقة بتطبيقها، ويتوازى ذلك مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2022 الذي يطلب رأيًا استشاريًا بشأن شرعية الاحتلال الإسرائيلي.

ومن الضروري هنا الاشارة الى ان ممارسة الابادة الجنسية لا تقتصر على الفعل فقط بل يقع ضمنها “التحريض على ممارستها، والتواطؤ على ارتكابها “، وهو امر اوردته جنوب افريقيا في الدعوى ضد اسرائيل، فهي تمارس ابادة فعلية يراها العالم يوميا وتؤكدها هيئات دولية رسمية وشعبية، كما ان العديد من مسئوليها حرضوا على الابادة بما في ذلك تصريحات رئيس الوزراء الذي استشهد بالإشارة التوراتية إلى العماليق( التوراة –التثنية ) التي قال فيها(اذهب واضرب العماليق (سكان فلسطين العرب) ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا”؛ وهو نفس التوجه الذي تضمنته تصريحات وزير الدفاع الاسرائيلي غالانت بشأن فرض الحصار الشامل وإزالة أية قيود على القوات المقاتلة في عملياتها (يعني التغاضي عن القانون الدولي للحروب)؛ ويتكرر التحريض على لسان وزير الأمن الوطني بن غفير الذي أعلن أن كل من يدعم حماس يجب تدميره ؛ وتوالت التصريحات في هذا الاتجاه من العديد من المسؤولين والمستشارين الاسرائيليين الآخرين الذين قالوا إنه لا يوجد أبرياء في غزة، ناهيك عن الدعوة الصريحة على لسان وزير التراث عميحاي الياهو لضرب غزة بالقنابل النووية،وهو ما يعد اعلى اشكال التحريض على الإبادة.

إن التصريحات الصادرة عن المحكمة الدولية توحي باحتمال تأكيد المحكمة على أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية،

وهو ما قد يترتب عليه:

أ‌- الدعوة لوقف إطلاق النار لوقف الابادة، وهو ما سيزيد من التضييق على الحكومة الاسرائيلية.

ب‌- ان القرار في حالة صدور الادانة سيضيق مجال المعونات من قبل حلفاء اسرائيل لانها ستقع في خانة مخالفة القرار.

ج‌- ان القرار سيجعل الولايات المتحدة في عام الانتخابات حريصة على تجنب الدعم المباشر والواضح لدولة أدانتها المحكمة.

د‌- ان قرار المحكمة يعزز الصورة الوحشية لإسرائيل ويضعها ضمن مجموعة الدولة المجرمة، وهو امر سيدفن كل الدعاية الاسرائيلية السابقة.

ومعلوم ان المحكمة سبق لها في عام 2004 أن اعتبرت الجدار الامني الذي بنته اسرائيل في الاراضي المحتلة غير قانوني ويجب ازالته وتعويض المتضررين منه، وساند القرار 14 قاضيا مقابل القاضي الامريكي، ولم تقبل المحكمة الحجة الامنية التي تذرعت بها اسرائيل لبناء الجدار.

على الدول العربية والاسلامية ولو من باب اضعف الإيمان ان تساهم في دعم جنوب افريقيا من ناحية، وتقديم الاستشارات القانونية المساندة، ثم التواصل مع الدول الاخرى المساندة للحقوق الفلسطينية أو المتفهمة لها والتي يمكن ان تساهم في الامر من ناحية ثانية بدلا من التكرار المقزز لعبارة ندين ونشجب وندين بشدو ونشجب باقس الكلمات….الخ…

أخيرا:

قد يقول البعض «وماذا فعل القانون الدولي لنا»، وهو شك في محله، لكن علينا ان لا ننسى ان المجتمع الدولي كان هو الرافعة المركزية لتفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا ذاتها.. ومعركة كسب الرأي العام الدولي امر في غاية الاهمية.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى