ياسر عبده يكتب: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ
اعتاد الناسُ سَرْدَ الحديث عن ألطاف الله بنبيّه موسى -عليه السلام- لمّا ورد ماء مدين بعد خروجه من مصر خائفًا يترقب، فأطعمه اللهُ من جوعٍ، وَآمَنَهُ مِنْ خَوْفٍ، ورزقه الزوجة والعمل.
وغَفل الكثير عن ألطاف الله بتلك الفتاة التقية الحيية النقية التي صارت زوجًا له!
اتَّفَقَتْ أقدارها أَنْ كانت من أسرة صالحة وأب كريم، فى بيئة طالحة ومجتمع لئيم أعوزها للخروج.
وإذا فسد الزمان اشتدت غربة الصالح، فمالَ لمن كان على شاكلته ويَئِنّ لمشكلته.
فتاة ليس لها إلا أخت وأب، لا أخ شفيق فيمنعها، ولا زوج رفيق فيكرمها، وأبوها شيخ كبير.
فما أحوجها لزوج صالحٍ وسند نافع، تواجه بصلاحه فساد المجتمع، وتفَرِّق به من صروف الدهر ما اجتمع!
لعلَّها كانت تَنْشُد في الزوج إذا جاء أكثر مما تَنْشُده النساء، تريده بصفات خاصة لتستقوي به ويكفيها حَاجَاتها، لا لتستعرض به وتَسْتَعلي به على قريناتها،
تريد القوي الأمين، والحيي الكريم، الذي يقاتِل عنها إذا سلّ الزمان عليها سيفه.
كأي فتاة تحلم بالارتباط بمن يشبهها، لكنْ أنَّى لها بالظَفْر بمن تلك صفاته، في مجتمع هؤلاء رجاله!
وهناك على بعد (ألف كيلومتر تقريبًا)، وفى أرض مصر تحديدًا كانت يد الله تعمل في الخفاء، وتَنْسُجُ أقدارها بأقدار شابٍ اصطنعه اللهُ لنفسه، وألقى عليه محبته، فكان أفضل مخلوق على ظهر البسيطة يومئذ.
وفى يوم أشرقت شمسها مع شروق شمسه، وهي منشغلة بهمّها، تَزُوُدُ عن غنهما ومعها أختها؛
إذ طَلعَ عليها ذلك الرجل النبيل – بعد أن قطع تلك المسافة الكبيرة في ثمانية أيام على أرض وعرة، حتى ورد ماء مدين-،
{فَسَقَىٰ لَهُمَا ثمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
لم يطلب من الله أكثر من الطعام، لكن الكريم رزقه الطعام والأمان، والزوجة والعمل.
ولم تطلب أكثر من القوي الأمين، لكن الله رزقها القوي الأمين وزوجها بالنبي الكريم.
ساقه الله إليها وما كانت تدري ساعتئذ بكرامة الله لها، ولا ما تخبئهُ لها الأيام.
كان فيه أكثر من كل الصفات التي تتصورها، وتطلبها أي فتاة في فتى أحلامها..
فهو القوي، الذي يرفع صخرة يستثقلها العصبة من الرجال وحده، وقبلها وكز رجلًا فقضى عليه.
وهو الأمين، الذي كان يسير أمامها كي لا يلمح طرفها.
وهو الحيي، الذي طاله الأذى من قومه -كما ذكر القرآن- بسبب حيائه.
أولى العزم من الرسل
ثم هو بعد كل تلك الصفات العظيمة وبعد سنوات قليلةٍ من ذلك اللقاء سيكون من أولى العزم الخمسة
الذين هم أكرم وأبر القلوب التي خلقها الله على وجه الأرض في تاريخها الممتد من لدن آدم وحتى قيام الساعة!
فبالله أكانت تلك الفتاة الكريمة تحلم قبل لحظات قليلة وهي في أرض مدين تزود عن أغنامها أن يَقدم عليها من بلد بعيد رجل بتلك الصفات!
هل كانت تعلم أن قصتها ستكون آيات يتَعبّد بها بعد آلاف السنوات!
كيف كانت مشاعرها بعدما تزوجت موسى -عليه السلام-، وكيف تغيَّر بيتهم بهذا القادم المبارك، وكيف هي بعد أن علمت أنها أصبحت زوج نبي الله موسى!!
إن في قصتها دروس وعبر، وألطاف وحِكم، لم نحسن استخلاصها، والتركيز على التقاطها من تلك الزاوية، وانصبَّ التركيز على زاوية واحدة، فحقّ لنا مدارَستها!
أَلَا فليعلم كل مؤمن مؤمن أن لطف الله أقرب من تَخَيُّله، وأكبر من تصوره، وأن تدبيره -سبحانه- لا يقتصر على الصالحين والأنبياء، ولكن…. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}