– ما زلتُ أتنفس الصعداء، وأنظرُ في أسى لجهاز (اللاب) أمامي، ويعتصرني الوجع، على أيام (ورق الدّشت)، وبطاريات الكاسيت التي كنتُ (أعضعضها بأسناني) لتعمل من جديد، والقلم الفرنساوي الذي أستخدمه في تقديم وترجيع شريط الكاسيت، حتى لا يستنزف البطاريات، في جهاز الكاسيت الصغير الذي كنتُ أضعه في (كيس بلاستيك) خوفا عليه.. فقد كان بالنسبة لي (أَمَلَة) يحسدني الأصدقاء عليها…
– ما زلتُ أحس بالألم في يدي – بعد كل هذه السنوات – كلما تذكّرتُ تفريغ شريط الكاسيت من حوارٍ طويلٍ مع مسؤول سياسي، أو رجل دين…
10 ساعات متواصلة، وتزيد في بعض الحوارات إلى 14 ساعة.
– ياااااه… ورق الدّشت.. عماد العملية الصحفية، والرفيق الدائم لكل المحررين، والباحثين عن الوجع، بل يكاد يصبح المرادف لكلمة صحفي.
– هـوّة واسعة بين العقد الأخير، والسنوات التي تسبقه، وسنوات ضوئية بينهما في التكنولوجيا وقفزات العلم، والسلوكيات والأجيال، وإيقاع الحياة.
– حوالي 6 شهور لأكتب بحثا عن: (الرومانسية في الإسلام)، وحوالي 9 شهور في دراسة عن: (الملف الأسود لليهود)،
شهور بين مكتبات المؤسسات الصحفية والمكتبات العامة والخاصة.
لكنك الآن يا عزيزي تستطيع في دقائق بواسطة (جوجل والذكاء الاصطناعي) أن تنجز العديد من الموضوعات والدراسات في جميع المجالات..
لم تكن الصحافة مجرّد أوراق مطبوعة تنقل الأخبار، بل كانت على مدى قرون طويلة ذاكرة الشعوب ومرآة الحضارات، ومنبر الفكر، وساحة السياسة.
فمن خلالها عبّرت الأمم عن همومها، ودافعت عن حرياتها، وصاغت أحلامها.
وإذا كانت الكلمة المكتوبة قد شكّلت دوماً أداة للمعرفة والتأثير، فإن الصحافة الورقية مثلت القفزة الأبرز في التاريخ البشري، لأنها جمعت بين المعلومة والسلطة، وبين التنوير والتغيير.
هيا بنا نتجوّل في تاريخ الصحافة الورقية: بداياتها العالمية، ودخولها إلى العالم العربي، وأول مطبعة وصحيفة عربية، ودور الصحافة العربية في تركيا، ثم وقفة عند حاضرها المضطرب: هل انتهت الصحافة الورقية أمام اجتياح الإعلام الرقمي؟
أولاً: البدايات العالمية للصحافة الورقية
من النشرات اليدوية إلى الطباعة
عرفت الحضارات القديمة أشكالاً بدائية من الإعلام المكتوب. ففي روما القديمة ظهرت “الأكتا ديورنا” أي “الأحداث اليومية”، وهي ألواح حجرية تُعرض في الساحات العامة لعرض القرارات الرسمية. وفي الصين، منذ القرن الثامن الميلادي، كانت هناك نشرات حكومية مكتوبة بخط اليد تُوزع على كبار المسؤولين.
لكن الانعطافة الكبرى جاءت مع اختراع يوهان جوتنبرج للطباعة بالحروف المعدنية المتحركة نحو عام 1447م، إذ سهّل طباعة الكتب والنشرات بكميات كبيرة، وفتح الطريق أمام الصحافة الورقية بالمعنى الحديث.
ميلاد الصحف في أوروبا
في ألمانيا صدرت أول صحيفة ورقية منتظمة عام 1605م، في ستراسبورج.
في إيطاليا كانت البندقية تنشر أوراقاً أسبوعية مقابل عملة صغيرة تسمى “غازيتا”، ومنها جاء لفظ “جريدة”.
في فرنسا ظهرت صحيفة La Gazette عام 1631م، وأصبحت لسان حال الدولة.
في إنجلترا صدرت The Daily Courant عام 1702م، كأول صحيفة يومية حقيقية في العالم.
الصحافة والثورات
مع القرن الثامن عشر ارتبطت الصحافة بالتحولات الكبرى: الثورة الأمريكية (1776) والثورة الفرنسية (1789). ومنذ ذلك الحين وُصفت الصحافة بأنها “السلطة الرابعة”، لأنها تجاوزت مجرد وسيلة إعلام، لتصبح قوة سياسية وفكرية قادرة على إسقاط الحكومات أو دعم الثورات.
ثانياً: الطباعة والصحافة في العالم العربي
أول مطبعة عربية
دخلت الطباعة العربية متأخرة لأسباب سياسية ودينية.
الموارنة أنشأوا أول مطبعة عربية في دير قزحيا بلبنان عام 1610م، لطباعة الكتب الدينية.
الحملة الفرنسية على مصر (1798م) جلبت مطبعة استخدمت في طباعة منشورات بالعربية والفرنسية.
أما الانطلاقة الكبرى فجاءت مع مطبعة بولاق التي أنشأها محمد علي باشا في القاهرة عام 1821م، فكانت نقطة البداية الحقيقية لحركة الترجمة والنشر والنهضة الفكرية.
أول صحيفة عربية
أول صحيفة عربية صدرت في مصر أثناء الحملة الفرنسية باسم “الحوادث اليومية” (1798) وكانت أداة دعائية.
أما الصحيفة الرسمية الأولى المستمرة فهي “الوقائع المصرية” التي أنشأها محمد علي عام 1828.
في بيروت ظهرت صحيفة “حديقة الأخبار” (1858م) لخليل الخوري.
في بغداد صدرت “الزوراء” عام 1869م.
في تونس نشرت “الرائد التونسي” عام 1860م.
الصحافة والنهضة
سرعان ما تحولت الصحافة العربية إلى منبر للنهضة، فدعت إلى التعليم والإصلاح والدستور، وكانت ساحة جدل بين التيارات الفكرية: من الإصلاح الديني مع محمد عبده، إلى التيار القومي، مروراً بالأدب والفنون.
لقد أصبحت الجريدة بالنسبة للقارئ العربي في القرن التاسع عشر كتاباً يومياً يعلّمه ويمتّعه ويقوده إلى المستقبل.
ثالثاً: الصحافة العربية في تركيا العثمانية
الطباعة في الدولة العثمانية
دخلت الطباعة إلى إسطنبول في القرن السادس عشر، لكنها ظلت حكراً على الأقليات (اليهود، الأرمن، اليونان)، ولم يُسمح بالطباعة بالعربية رسمياً إلا في القرن الثامن عشر، خوفاً من تحريف النصوص الدينية.
الصحف العربية في إسطنبول
عام 1831م، صدرت أول صحيفة عثمانية رسمية باسم “تقويم وقائع“، وكان لها نسخ بالعربية والتركية.
ومن أهم الصحف العربية التي ظهرت في إسطنبول صحيفة “الجوائب” (1861م) التي أسسها أحمد فارس الشدياق اللبناني، واشتهرت بجرأتها واتساع انتشارها.
الصحافة كمنبر معارضة
أصبحت الصحافة العربية في إسطنبول منبراً للمعارضة، إذ احتضنت الأصوات الإصلاحية والقومية، ومهدت لفكرة الاستقلال العربي.
وبذلك لعبت الصحافة دوراً في زلزلة أركان الدولة العثمانية.
رابعاً: ازدهار الصحافة العربية الحديثة
مطلع القرن العشرين
شهدت العواصم العربية نهضة صحفية واسعة:
في مصر برزت الأهرام (1875م) التي أسسها الأخوان سليم وبشارة تقلا، وتحولت إلى صحيفة العرب الأولى.
في لبنان نشطت صحف مثل لسان الحال والأحرار.
في العراق صدرت صحف وطنية مثل العالم العربي وصوت الأهالي.
في المغرب العربي، تحولت الصحافة إلى أداة مقاومة للاستعمار الفرنسي والإيطالي والإسباني.
الصحافة والسياسة
أصبحت الصحافة العربية أداة للنضال القومي والتحرر الوطني، ومنبراً للأدباء والمفكرين.
فلم يكن الصحفي مجرد ناقل للأخبار، بل كان مثقفاً ومصلحاً، وغالباً زعيماً سياسياً. وهكذا اندمجت الصحافة مع مشروع النهضة العربية في القرن العشرين.
خامساً: الصحافة الورقية في مواجهة الإعلام الرقمي
الأزمة الحديثة
مع نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، تعرضت الصحافة الورقية لهزة عنيفة:
الإنترنت جعل الأخبار متاحة فورياً ومجاناً.
الإعلانات التجارية هاجرت من الورق إلى المنصات الرقمية.
تكاليف الطباعة والتوزيع تضاعفت، فيما قلّت نسبة القراء.
هل انتهت الصحافة الورقية؟
توقفت عشرات الصحف الكبرى أو تحولت إلى منصات إلكترونية بحتة، مثل The Independent البريطانية. حتى مجلات عريقة مثل Newsweek توقفت عن الطباعة لفترة. ومع ذلك ما تزال هناك صحف ورقية تقاوم وتحافظ على حضورها مثل New York Times وLe Monde والأهرام.
بين الورق والرقمية
الصحافة الورقية لم تمت، لكنها فقدت موقعها المركزي.
صارت الصحف الورقية أقرب إلى مطبوعات مرجعية أو نخبوية، فيما استأثر الإعلام الرقمي بالسرعة والانتشار.
ويبدو المستقبل متجهاً نحو الصحافة الإلكترونية، لكن الورق سيبقى رمزاً للرصانة والأرشفة و”المصداقية الملموسة” التي يفتقدها الفضاء الرقمي أحياناً.
شواهد تاريخية سردية
1447م: اختراع الطباعة على يد غوتنبرغ.
1605م: أول صحيفة ورقية في ألمانيا.
1702م: أول صحيفة يومية في إنجلترا.
1798م: الحملة الفرنسية تصدر “الحوادث اليومية” في مصر.
1821م: إنشاء مطبعة بولاق في القاهرة.
1828م: صدور “الوقائع المصرية”.
1858م: “حديقة الأخبار” أول صحيفة خاصة في بيروت.
1861م: صدور “الجوائب” في إسطنبول.
1875م: تأسيس “الأهرام” في مصر.
القرن العشرون: الصحافة العربية تتحول إلى قوة سياسية وثقافية.
القرن الحادي والعشرون: انحسار الورق أمام صعود الصحافة الرقمية.
إن الصحافة الورقية التي رافقت الإنسان قروناً طويلة من تاريخه الحديث لم تعد اليوم سيّدة الميدان.
لقد تنازلت عن عرشها أمام الصحافة الإلكترونية التي تملك سرعة البرق، وانتشار العاصفة، وتكلفة الصفر.
غير أنّ الورق لم ينتهِ، ولن ينتهي تماماً، لأنه ذاكرة الشعوب الموثقة، والأرشيف الذي يُبنى عليه التاريخ، والرمز الملموس للمصداقية في زمن يتلاعب فيه الافتراضي بالحقيقة.
المستقبل دون شك للإعلام الرقمي، لكن الصحافة الورقية ستبقى، ولو في مساحات أصغر، كمنبر رصين، وكجسر يصل الماضي بالحاضر.
فهي التي منحت الصحافة هيبتها، وبدونها لن نفهم كيف صارت الكلمة سلطة، وكيف أصبحت الجريدة كتاب النهضة اليومي.
