1- خلال 15 عاما، وأنا أقدّم رجلا، وأؤخّر أخرى، كلما اقتربتُ من مذكرات نوبار،،
فقد لوّنتنا مدارسنا بالسواد تجاه هذا الرجل، ولم أكن أتخيله إلا غبيا أعجميا ناهبا لثروات مصر، ولكن بعد كل تلك السنوات، أكتشفتُ أنني أمام عبقريٍّ حكيمٍ مؤرّخٍ، بعيدا عن وظائفه وأدواره في حُكم مصر،، فلم يكن ملاكا،، ولا شيطانا
2- كتب نوبار باشا مذكراته خلال حياته، لكن لم يتم نشرها كاملة إلا بعد وفاته، وصدرت الترجمة العربية لمذكراته في عام 2010م، وذلك في حفل أقيم في مكتبة الإسكندرية.
3- نوبار باشا (1825م – 1899م) كان سياسيًا مصريًا من أصل أرمني شغل عدة مناصب وزارية هامة، بما في ذلك منصب رئيس الوزراء عدة مرات.
4- تعتبر مذكراته وثيقة تاريخية مهمة، حيث تكشف عن وجهة نظره حول الأحداث السياسية التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر.
5- في زمنٍ كانت فيه مصر تتأرجح بين النهضة والانهيار، وبين الحلم بالاستقلال والوقوع في شَرَك التبعية، جاءت مذكرات نوبار باشا كأحد أهم الشهادات السياسية على الإطلاق.. رجلٌ حكمَ ثم كتب، عاين السلطة ثم فحصها بقلمه، فكانت مذكراته ليست تبرئة لذمة، بل شهادة تنبض بالصراحة والمكاشفة، وتضيء أكثر لحظات التاريخ المصري الحديث تعقيدًا.
6- هذه المذكرات ليست مجرد سرد لماضٍ انقضى، بل مرآة صادقة لمرحلة تأسيس الدولة الحديثة، وسجلّ حافل بالصراع بين الإصلاح والفساد، بين صوت العقل وصخب الطموحات غير المحسوبة.
7- وُلد نوبار باشا عام 1825م، في مدينة إزمير، وجاء إلى مصر شابًا، وعاش مع خاله بوغوص بك، أحد أركان دولة محمد علي.
8- بدأ نوبار حياته العملية في مصر مترجمًا وسكرتيرًا، ثم تدرّج في المناصب حتى أصبح أول من تولّى منصب “رئيس الوزراء” في مصر، وتولّى رئاسة الوزارة ثلاث مرات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
9- كان من أبرز المساهمين في تشكيل ملامح الدولة الحديثة: أسس مجلس النظار، وأصلح نظام القضاء، وأطلق المحاكم المختلطة، وسعى إلى فك قبضة الامتيازات الأجنبية التي كانت تنخر في سيادة البلاد.
10- دوّن نوبار مذكراته بين عامي 1890م و1894م، فامتدت على مدى 41 فصلًا توزعت على النحو الآتي:
6 فصول عن عهد محمد علي وإبراهيم باشا
4 فصول عن عباس الأول
6 فصول عن سعيد باشا
25 فصلًا مخصصة لعهد الخديوي إسماعيل وحده
ويكشف هذا التركيز على إسماعيل، عن وعي نوبار بثقل تلك المرحلة وخطورتها، إذ شهدت فيها مصر أقصى طموحاتها وأشد أزماتها.
11- نظر نوبار إلى إسماعيل باشا بوصفه حاكمًا واسع الخيال، يطمح إلى تحويل مصر إلى دولة عصرية كبرى، لكنه رأى فيه أيضًا حاكمًا مغامرًا لا يقدّر العواقب، يعتقد أن المال قادر على شراء كل شيء: القصور، والمكانة الدولية، ورضا القوى العظمى، بل وولاء الداخل والخارج معًا.
12- انتقد نوبار إسراف إسماعيل، واعتبر أن مشروعاته الكبرى لم تكن مصحوبة بإدارة رشيدة، وأنه أغرق البلاد في ديون هائلة، حتى باتت مصر خاضعة للمراقبة المالية الأجنبية، وفقدت تدريجيًا استقلال قرارها الوطني.
13- خصص نوبار فصولًا كاملة لقضية الديون، التي اعتبرها أخطر ملف في عهد إسماعيل، وكان على دراية تامة بكواليس القروض، وشروطها المجحفة، ونتائجها الكارثية، ولم يتردد في القول إن الإفراط في الاستدانة جعل مصر تُدار كما تُدار الشركات المَدينة، لا الدول ذات السيادة.
14- كتب نوبار عن ذلك قائلًا:
“إن الخديوي أبهر العالم بمسارح ومشروعات فخمة، بينما الفلاح المصري مكدود الظهر، لا يعرف من الدولة إلا الجباية والسخرة.”
15- لقد أدرك مبكرًا أن الاستدانة دون إنتاج، والتوسع المالي دون مساءلة، لا تقود إلا إلى التبعية والانهيار.
16- على عكس ما قد يُظن، لم يكن نوبار باشا يحمل نظرة استعلائية إلى المصريين، بل على العكس، كان من أكثر المدافعين عن حقوقهم داخل الإدارة. تحدث بإعجاب عن الفلاح المصري، وذكائه الفطري، وصبره على المكاره، وسعى جاهدًا – عبر منصبه – لإلغاء السُّخرة وتخفيف الضرائب الظالمة.
17- أما مصر ككيان، فقد رآها بلدًا عظيمًا، لكنها كانت تُدار بمنطق الفرد لا بمنهج المؤسسات، تتأرجح بين الرغبة في التحديث والخضوع للإرادة الأجنبية.
18- لم يكن نوبار مجاملًا في تقييمه للحكام، فقد انتقد عباس الأول لشدته وقسوته، وسعيد باشا لضعف إرادته، وإسماعيل لطموحه المنفلت. كما وجّه نقدًا لاذعًا لحاشية الحُكم، التي رأى أنها كانت أداة للنفوذ الشخصي، لا لخدمة الوطن.
19- يقول نوبار في مذكراته:
“كانت السياسة تُدار أحيانًا بالصدفة، وتُخطَّط بالأوهام، وتُنفَّذ بجيوب الآخرين.”
وهو توصيف يعكس مرارة رجل أدرك أن الإصلاح في مصر كان دومًا محاصرًا بين جموح الحاكم، وفساد الإدارة، وضغوط الخارج.
20- مرَّ أكثر من قرنٍ على شهادة نوبار باشا، لكن كأن شيئًا لم يتغير، فاليوم، كما بالأمس، تقف مصر على أبواب مؤسسات مالية دولية، تفاوض على قروض جديدة، وتعيد هيكلة ديون قديمة، وتصارع للحفاظ على استقلال قرارها الاقتصادي.
21- البنك الدولي وصندوق النقد وغيرهما، ليسوا إلا استمرارًا لتلك “المراقبة الأوروبية” التي حذّر منها نوبار قبل قرن، حين قال: (إن القروض ليست خطرًا في ذاتها، بل حين تتحوّل إلى وسيلة لإرضاء الطموحات لا لخدمة الناس)
22- كتب نوبار مذكراته، من الداخل، لا مراقب من الخارج. رجل عرف مواقع الخلل، وشهد سقوط الأحلام، لكنه تمسّك حتى النهاية بالأمل في دولة تستمد قوتها من شعبها، لا من محفظة دائنيها.
23- مذكرات نوبار باشا ليست مجرد سيرة، بل وثيقة سياسية وإنسانية، تقدّم صورة صادقة لوطنٍ كان يُبنى في لحظة صراع، بين النهضة والسقوط.