الأمة الثقافيةسير وشخصيات

“هاشم الرفاعي”.. سراجُ الشعرِ الذي انطفأ مبكرًا

المزايدة على الشاعر هاشم الرفاعي ووضعه في خندق الإخوان أو كفة الشيوعيين.. مجرد هراء، فالرفاعي كان صوفيًا، ساند الوفد حتى قيام الثورة وظل يمتدح قائدها، ثم انقلب عليه، ولم تكن له رؤية واضحة، ولا أيديولوجية محددة، فهو مجرد شاعر موهوب فقط! أضرّت به المزايدات، والمبالغات، والتهويل في سيرته وطريقة موته..

(سيّد جامع هاشم مصطفى الرفاعي)

– اسم الشهرة: هاشم

اشتهر بـ اسم جده “هاشم” لشهرته ونبوغه، وتيمنا بما عُرف عنه من فضلٍ وعلم

الميلاد: 15 مارس 1935م، أنشاص الرمل، مركز بلبيس، محافظة الشرقية (مصر)

الوفاة: 1 يوليو 1959م، أنشاص الرمل، محافظة الشرقية

– التحق بمعهد الزقازيق الديني التابع للأزهر، سنة 1947م، وحصلَ على الشهادة الثانوية سنة 1956م، ثم التحق بكلية دار العلوم، سنة 1955م

– لم يكن (هاشم الرفاعي) مُجرّد طالب موهوب.. بل كان مُسلمًا مُتديّنًا حتى النخاع.. دانت له اللغة العربية فأصبحت طوع بنانه.. فإذا به مِلْء السمع والخاطر بطول البلاد وعرضها.. حيث انطلق كفارس من فرسان الشعر الجدد، وذاع صيته في مهرجانات القاهرة ودمشق ــ وهو في العشرين ــ وقد تم اختياره طالبًا مثاليًا للجمهورية عام 1959م ..

– كان هاشم الرفاعي شابًا متمرّدًا على السلبيات المألوفة، يؤمن بأن الوطن لم يبتسم بعد، والحرية حمامة مذعورة قصّوا أجنحتها.. ولذا هاجم (رجال الثورة) وهاجم (سلبيات الأزهر)، وتم فصله أكثر من مرة من (المعهد الأزهري ودار العلوم) التي التحق بها فيما بعد.. وقد كتب وهو في الصف الأول الثانوي الأزهري قصيدته التي فُصِل بسببها عامًا كاملًا:

قِفْ في ربوعِ المجدِ وابكِ الأزهرا/

واندبه رَوضًا للمكارمِ أقفرا/

واكتب رثاءَكَ فيهِ نفثةُ موجَعٍ

واجعل مدادَكَ دمعَكَ المتحدّرا/

– ولولا تدخّل (محمد أنور السادات) رئيس مجلس الأمة حينذاك، لتم فصله نهائيًا.. والعلاقة بين (السادات) و(هاشم الرفاعي) حيّرت كل المهتمين بالأدب، وما زال النقاد يلهثون ليعرفوا سر العلاقة بين الشاعر المتمرد، وبين (السادات)..

– وبالرغم من تمرّد (الشاعر الدرعمي) على رجال الحُكم حينذاك.. إلا أن الأمانة الأدبية تقتضي أن نقول: إن كمال الدين حسين ــ وزير التعليم ــ بذل الكثير من الجهد كي يروّض هذا الشاعر الشاب المتمرد..

– فقد وجد الوزير في (هاشم الرفاعي) ضالته، ووجد فيه الأمل الذي سيعيد (راية الشعر) إلى (مصر) بعد أن استقرت في منطقة (الشام ولبنان والعراق) بعد رحيل (شوقي) و(حافظ) ..

وكان الوزير على وَشَك النجاح بإعادة الراية وتتويج (الرفاعي) أميرًا جديدًا، لكن القدر أراد شيئًا آخر.. فقبل أن يُكمل (الشاعر) دراسته بكلية دار العلوم، عاجلته المنيّة على أيدي بعض الحاقدين.. واستشهد الشاعر هاشم الرفاعي، في 1 يوليو 1959م، وهو لم يكمل الرابعة والعشرين.. أبدع فيها ما أبدع بالرغم من مشاكل إبعاده عن الدراسة..

– ظلَ هاشم الرفاعي (رحمه الله) يرفل في رداء الإسلام، لا يترك مناسبة إلا وكان النجم الأول فيها..

أمسياتٌ من الضياءِ وليلٌ

رفَّ في جُنحِه الإخاءُ وزَانَهْ/

ساهرٌ عنده تجمّع قومي

حول شيخٍ مُرتّلٍ قُرآنَه/

في خشوعٍ لا يسمع المرء منهم

غير همسٍ: سبحانه.. سبحانَهْ/

– غاص هاشم الرفاعي في بحور الأدب العربي.. كتب في القصة والمسرحية.. وله محاولات شعرية باللغة العامية.. وقد أُطلقت عليه العديد من الألقاب:

(البُحتري الصغير/ شاعر الإسلام/ شاعر الطبيعة/ شاعر العروبة/ معجزة الشعر العربي)

ملكنا هذه الدنيا قرونا

وأخضَعَها جدودٌ خالدونا/

وسطّرنا صحائفَ من ضياءٍ

فما نَسِـيَ الزمانُ ولا نَسينا/

أما قصيدته الخالدة (رسالة في ليلة التنفيذ) فقد كان لها الغَلَبة، والدور القوي والفعال.. حتى إن الكثيرين لا يعرفون له إلا هذه الملحمة ــ والتي كتبها قبل أن يكمل 19 عامًا من عمره القصير.. وما زال الكثيرون يعتقدون إلى الآن أن (هاشم الرفاعي) كان معتقلًا، وأبدع هذه الملحمة الخالدة: (رسالة في ليلة التنفيذ) داخل زنزانته.. ولكنها في الحقيقة رؤية شاعر أبدعها وهو في حجرة منزله.. متأثرًا بإعدام القاضي والفقيه الدستوري “عبد القادر عودة” ورفاقه، في يوم 9 ديسمبر عام 1954م.

أبتاهُ ماذا قد يخطُّ بناني

والحبلُ والجلاّدُ منتظرانِ/

هذا الكتابُ إليكَ من زنزانةٍ

مقرورةٍ، صخرية الجدرانِ/

لم تبقَ إلا ليلةٌ أحيا بِها

وأحسُّ أنّ ظلامها أكفاني/

ويحلّق (هاشم الرفاعي) في سماء الشعر بين التديّن والفلسفة، والوصف والهجاء.

ومِن العواصِفِ ما يكون هبوبها

بعد الهدوءِ وراحةِ الرُّبانِ/

إن احتدامَ النارِ في جوفِ الثَّرَى

أمرٌ يثيرُ حفيظة البركانِ/

وتتابعُ القطراتِ ينزلُ بعدَهُ

سَيْلٌ يليهِ تدفقُ الطوفانِ/

– يقول الدكتور/ ذكي المهندس، عميد كلية دار العلوم الأسبق: لو قُدِّرَ لهاشم الرفاعي البقاء؛ لكان أشعر أهل زمانه..

– بينما أجمع كل من الروائي (يوسف السباعي) والدكتور/ عبدالحكيم بلبع، عميد سابق لدار العلوم، والدكتورة/ طلعة الرفاعي والأستاذ/ شفيق جبري (سوريا) .. أن هاشم الرفاعي لو عاش لسن الثلاثين لغيّرَ مجرى الشعر العربي، وسحبَ البساط من شعراء العربية قدامى ومحدثين..

ويؤكد الدكتور أحمد هيكل، وزير الثقافة الأسبق أن هاشم الرفاعي كان (مشروع أمير لإمارة الشعر العربي) ..

أما أستاذه (علي الجندي) فيقول: لو عاش هاشم خمس سنوات أُخرى لفاق شعراء العربية قاطبةً…

بينما يؤكد الكُتّاب: مجدي الشهاوي، ومحمد كامل حتة، ومحمد حسن بريغش (الأردن ) : أن هاشم الرفاعي كان مُعجزة شعرية يصعب تكرارها.

ثم اختنق المصباح.. وذبلت الزهرة.. ومات هاشم قبل أن يكمل 24 ربيعًا..

أنا يا بُنَيّ غدًا سيطويني الغَسَقْ/

لم يبقَ من ظلِّ الحياةِ سوى رَمَقْ/

وقد قامت كلية دار العلوم بتأبين الشاعر في جلسة باكية ضمت أساطين البديع في مصر والعالم العربي، يتقدمهم وزير المعارف المصري، ونخبة من الشعراء يرثون فقيد الشعر الشاب: أحمد هيكل – علي الجندي – شفيق جبري .. وغيرهم ..

واختتمت الدكتورة السورية (طلعة الرفاعي) الليلة الحزينة بقولها:

يا زهرةٌ لو أُمهِلَتْ ملأَتْ نوافِحُها الرحاب/

لهَفِي عليكَ فهل يطولُ على الحِمَى منكَ الغيابْ/

كان هاشم الرفاعي يميل إلى تأييد (محمد نجيب) .. وعندما زار الرئيس نجيب محافظة الشرقية لتوزيع الأراضي على صغار الملاك قال:

أملٌ تحققَ في البلاد عسيرُ

قد كان في خُلدِ الفقيرِ يدورُ/

لما أعيد إلى الكنانةِ مجدُها

وانجاب عنها الليلُ والديجُورُ/

وقفة:

لا أتفق مع الذين صبغوا ديوان الرفاعي وقصائده إلى ما يؤمنون به (هُم) من أفكار.. فالناقد «محمد كامل حتة» في سنة 1960م، جعل منه شيوعيًا.. والكاتب محمد حسن بريغش في 1980م، جعله أصوليًا.. والحقيقة أن هاشم الرفاعي في سنواته الأولى لم يكن سوى شاعر مبدع فقط.. يمتدح جمال عبد الناصر ثم يهجوه!

جمعتَ لنا كياناً ضاعَ بين الناسِ واضطربا/

وكنا في تخبّطنا نخافُ الغربَ إنْ غَضِبا/

فلولاك لأصبحنا فريسته إذا وثبا/

وأشْهَدُ أن أهل الأرض قد عرفوا بكَ العَرَبا/

ويقول في 18 يونيو 1959م:

الآن صارَ الدهرُ طَوع بنانهِ

مدَّ الذراع لمجده ترحيبا/

فانهض بشعبكَ يا جمالُ فإننا

جئنا نردد عهدنا المكتوبا/

ثم يقول غاضبا، في جمال عبد الناصر:

لو كان عهدكَ قبل عهد محمدٍ

لَلُعِنْتَ يا فرعونُ في القرآن/

وأيضًا :

أو ليس مَن فاق الطغاة ضراوةً

وأثار للرعب البغيض قتاما/

أو ليسَ مَن صبّ البلاء مضاعفًا

وأحلَّ من حُرِّ الدماء حراما/

أو ليسَ منكر كلَّ حقٍ حوله

ولو استطاع لأنكر الإسلاما/

– هاشم كان متعاطفًا مع التيار الإسلامي، ولكنه لم ينضم إلى أي تنظيم سياسي أو ديني.. فهو من أسرة متصوفة تصوفًا سُنيًا، وينتهي نسبه إلى الإمام أحمد الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية..

– إنّ المزايدة على الشاعر ووضعه في خندق الإخوان أو كفة الشيوعيين.. مجرد هراء، فالرفاعي كان صوفيًا، ساند الوفد حتى قيام الثورة وظل يمتدح قائدها، ثم انقلب عليه، ولم تكن له رؤية واضحة، ولا أيديولوجية محددة، فهو مجرد شاعر موهوب فقط! .. أضرّت به المزايدات، والمبالغات، والتهويل في سيرته وطريقة موته..

– تأثرتُ مبكرا بالشاعر هاشم الرفاعي، وما زلتُ أحفظ قصيدة “رسالة في ليلة التنفيذ” كاملة، ولي قصيدة طويلة، لكنها بسيطة جدا من شعر البدايات الأولى قبل المرحلة الجامعية، أعارض فيها تلك القصيدة،: وأقول في آخرها:

ما ضرَّ لو شافَ (الفتى) من صُـبحنا

يوماً جديدًا في دُنا الرحمــنِ/

ويرى الهزيمةَ للطغاةِ ومُزِّقَت

(بيد الجموعِ شريعةُ القرصانِ)/

يا طالما كان الصبىيُّ مُصَوِّراً

معنى الحياةِ …ودمعة َالكروانِ/

وجراحَ مصرَ وكيف كانت جُرحَهُ

لهفى على العصفور في الأكفانِ/ 

يا شاعرَ الإسلامِ هَذِي عَبْرَتي

ستظلُّ دَوْماً فى جذورِ كيانـي/

أواه ُماذا قد يخطُّ بناني

أنتَ القصيدُ وسيّـدُ الأوزانِ/

أنا لستُ أنسى من يخطُّ وريدُهُ

دُرَّ البيانِ لأمــةِ القــرآنِ/

مقتل هاشم الرفاعي:

– اُغتيل هاشم الرفاعي وهو ابن الرابعة والعشرين من عمره، بعدما ترك حوالي 187 قصيدة شعريَّة جدَّدت في تناول القضايا الإسلاميَّة التي غابت عن المجال الأدبي في عصره.

– مات مقتولا داخل مركز شباب أنشاص الرمل (حسب بعض المصادر)، عام 1959م، وقيل في ملعب المدرسة الابتدائية بقريته، أثناء محاولته (تخليص) مشاجرة، وقُتلَ بواسطة جهات أمنية، وما زال الفاعلُ مجهولا، وبالغت الدولة في احتفالات تأبينه لتغطّي على جريمتها..

– يقول المؤرخ الراحل الدكتور محمد الجوادي:

(قد جاء الخلاص من حياة هاشم الرفاعي بطريقة ديكتاتورية مبتكرة تخفي وتُظهر في نفس الوقت أصابع النظام التي أرتكبها بدهاءٍ وقسوةٍ ونذالة، فقد كان الشاعر هاشم الرفاعي يقضي الإجازة الصيفية في قريته إنشاص، وكان في ذلك اليوم يمضي بعض الوقت في منتدى صغير يرتاده أهل القرية العاديون من مختلف الأعمار والاهتمامات، ويمثّل بالنسبة لهم متنفسًا تقليديا، وفجأة نشبت مشادة مفتعلة لم يكن الشاعر هاشم الرفاعي نفسه طرفا فيها، لكن السكين الغادر امتدت إليه بيد أحد الأشقياء فقضت عليه)

لعبة السياسة المدمّرة

– رحمَ اللهُ «هاشم الرفاعي».. سراج الشعر الذي انطفأ مبكّرًا..

والوردة التي تألّقت وعطّرت الدنيا، ثم ذبلت..

والشاعر المعجزة الذي لو تركوه؛ لأعاد أمجاد المتنبي والبحتري..

ولكنه التناحر البشري القاتل، ولعبة السياسة المدمّرة، والحقد الأسود الذي يأكل الأخضر واليابس، ويحرق الإبداع والمبدعين.

—————

المصدر:

كتاب (بين شهيق وزفير – يسري الخطيب) طبعة سنة 2005م

يسري الخطيب

- شاعر وباحث ومترجم - مسؤول أقسام: الثقافة، وسير وشخصيات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى