في اليمن لا تعلو أصوات السياسة ولا صرخات الحرب على صوت البطون الخاوية، في القرى البعيدة كما في المدن المكتظة يجلس الأطفال حول أوانٍ فارغة ينتظرون وجبة قد لا تأتي، وأمهات يكتفين برشفة ماء ليدفعن بأطفالهن إلى النوم بينما تتساقط الأحلام واحدًا تلو الآخر أمام جدار الجوع.
سبعة عشر مليون إنسان يواجهون اليوم معركة البقاء بلا ذخيرة سوى الأمل، وأمام أعينهم يقترب شبح المجاعة خطوة بخطوة حتى صار الجوع هو الوجه الأبرز لليمن المنهك، بعدما كان يسمى” اليمن السعيد”!!
أزمة إنسانية
اليمن يواجه واحدة من أسوأ أزمات الجوع في العالم، حيث تشير أحدث تقديرات برنامج الأغذية العالمي ومنظومة التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي إلى أن أكثر من سبعة عشر مليون إنسان يعيشون حاليا في مراحل أزمة أو أسوأ من ذلك، ما يعني أن ملايين العائلات لا تعرف من أين ستأتي وجبة الغد، فيما تقترب بعض المناطق من مرحلة الكارثة إذا استمر التدهور حتى سبتمبر المقبل.
تصنيف مرحلى للأمن الغذائى
يُظهر آخر تحديث جزئي للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) – الصادر مؤخرا- صورة قاتمة للمحافظات الجنوبية. فبين مايو 2025 وأغسطس 2025، يواجه حوالي 4.95 مليون شخص حالة من انعدام الأمن الغذائي ترقى إلى مستوى الأزمة أو ما هو أسوأ (المرحلة 3+ من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي)، بما في ذلك 1.5 مليون شخص في حالة طوارئ (المرحلة 4 من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي). ويُمثل هذا زيادة قدرها 370,000 شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد مقارنةً بالفترة من نوفمبر 2024 إلى فبراير 2025.
توقع بتدهور الوضع
ومن المتوقع أن يتدهور الوضع مستقبلاً. فبين سبتمبر 2025 وفبراير 2026، قد يقع 420,000 شخص إضافي في المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أو ما هو أسوأ، إذا لم يتم تقديم المساعدات بصورة عاجلة ومستدامة. وهذا من شأنه أن يرفع العدد الإجمالي للأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في مناطق المحافظات الجنوبية إلى 5.38 مليون شخص – أي أكثر من نصف السكان.
زيادة مستوى انعدام الامن الغذائى
تستمر الأزمات المتداخلة المتعددة في زيادة مستوى انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك التدهور الاقتصادي المستمر، وانخفاض قيمة العملة في المحافظات الجنوبية، والصراع، والظواهر الجوية القاسية التي تحدث بشكل متزايد. ومن المتوقع أن يؤدي تأخر موسم الزراعة، وزيادة احتمالية خطر الفيضانات في يوليو، وانتشار أمراض النبات والثروة الحيوانية، وخاصة الجراد الصحراوي، إلى تفاقم الضغوط على وضع الهش في هذه المحافظات.
اعادة ترتيب الاولويات
تقوم الجهات الإنسانية الفاعلة، بما في ذلك اليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة، بإعادة ترتيب أولويات جهودها الإنسانية في اليمن، مستهدفةً المناطق عالية الخطورة بتدخلات متكاملة في قطاعات الأمن الغذائي والتغذية والمياه والصرف الصحي والإصحاح البيئي والصحة والحماية، وذلك لتعظيم الأثر المنقذ للحياة.
نحتاج دعما فوريا
ويشير سيمون هوليما – نائب مدير برنامج الأغذية العالمي في اليمن إلى “أن تزايد عدد الأشخاص في اليمن الذين لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية أمر مثير للقلق، في وقت نواجه فيه تحديات تمويل غير مسبوقة”. وأضاف: “هناك حاجة إلى دعم فوري لضمان استمرارنا في خدمة الأسر الأكثر ضعفاً التي لا تجد ملاذاً آخر”.
تدعو الوكالات بشكل عاجل إلى تقديم مساعدات إنسانية ودعم لسبل العيش بشكل مستدام وواسع النطاق، وذلك لمنع المجتمعات من الانزلاق في حالة أعمق من انعدام الأمن الغذائي، وضمان الوصول إلى الخدمات الأساسية، وتوليد فرص اقتصادية وفرص كسب العيش.
الفاو: الوضع حرج
ويؤكد الدكتور حسين جادين، ممثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في اليمن، على أن “الوضع حرج ويتطلب تدخلاً عاجلاً، وأن الزراعة هي مفتاح إنهاء أزمة انعدام الأمن الغذائي في اليمن. علاوة على ذلك، فقد ألقى تأخر هطول الأمطار وعدم كفايتها في أبريل بظلاله على موسم الزراعة الحالي، مما يهدد سبل العيش الزراعية الهشة أصلاً وتوافر الغذاء. ومن خلال الدعم العاجل، يمكننا تنشيط الإنتاج الغذائي المحلي، وحماية سبل العيش، والانتقال من الأزمة إلى بناء القدرة على الصمود بما يضمن الكفاءة والفعالية”.
يتأثر النازحون داخلياً والأسر الريفية ذات الدخل المنخفض والأطفال الضعفاء بشكل خاص، حيث يواجهون حالة ضعف متزايدة بسبب خفض التمويل، وتراجع فرص كسب العيش، وضعف آليات التكيف.
اليونيسف: مآساة النساء
ويشير بيتر هوكينز – ممثل اليونيسف في اليمن – إلى أن “حوالي 2.4 مليون طفل دون سن الخامسة و1.5 مليون امرأة حامل ومرضعة يعانون من سوء التغذية الحاد في اليمن، مما يعرضهم لخطر أكبر للإصابة بالأمراض وتأخر النمو والوفاة”. وأضاف قائلاً: “تشير بيانات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إلى تدهور الوضع في 5 مناطق على الأقل من أصل 17 منطقة معيشية في مناطق الحكومة اليمنية في اليمن، لذا يجري اتخاذ الترتيبات اللازمة لتوسيع نطاق التدخلات التي يجب أن تكون مستدامة إذا أردنا التغلب على الأزمة”.
ليست أزمة طبيعية
هذه الأزمة ليست وليدة كارثة طبيعية، بل هي حصيلة حرب طويلة أنهكت الاقتصاد ودمرت البنية التحتية وأدت إلى تعطل طرق الإمداد وفقدان الوظائف وانهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، ما تسبب في ارتفاع كبير لأسعار السلع الغذائية الأساسية وجعل سلة الغذاء بعيدة المنال لغالبية الأسر اليمنية.
تقارير ميدانية
التقارير الميدانية تكشف أن المحافظات الجنوبية والشمالية على السواء تشهد توسعا في نطاق من هم في مرحلة الطوارئ الغذائية، مع وجود جيوب باتت بالفعل على أعتاب المجاعة، وتحذيرات متكررة من أن الوضع قد يزداد سوءا إذا لم تتوفر الموارد الضرورية في الوقت المناسب.
التمويل الانسانى
التمويل الإنساني يشهد تراجعا حادا، حيث لم تنجح النداءات الأممية سوى في جمع جزء يسير من المبالغ المطلوبة مما أجبر البرامج الغذائية على خفض الحصص وتقليص نطاق التغطية، وهو ما ينعكس مباشرة على موائد الأسر الفقيرة فيتحول العجز إلى جوع والجوع إلى سوء تغذية حاد يهدد الحياة.
من يدفع الثمن
الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات يدفعون الثمن الأكبر، إذ يحتاج مئات الآلاف منهم إلى دعم غذائي متخصص، فيما تكافح المراكز الصحية بنقص الأدوية والمستلزمات، وأمام هذا الواقع تلجأ كثير من الأسر إلى استراتيجيات قاسية للبقاء مثل بيع ما تملك من أصول أو تقليل عدد الوجبات أو إخراج الأطفال من المدارس للانخراط في سوق العمل.
الزراعة تنقرض
الزراعة المحلية التي يفترض أن تكون خط الدفاع الأول تواجه تحديات جسيمة من ندرة المياه وارتفاع تكاليف الوقود وصعوبة الوصول إلى الأسواق بسبب إغلاق الطرق وانعدام الأمن، ما يجعل أي دعم للبذور والري الحديث أو الاستثمار في سلاسل الإمداد الغذائية يترجم مباشرة إلى تحسين الأمن الغذائي وتقليل فجوة الجوع، ولكن اصبح ذلك صعبا للغاية.
الحل الانسانى
الحل الإنساني العاجل يتطلب تمويلا كافيا ومستداما لبرامج الغذاء والصحة والتغذية والمياه وضمان وصول المساعدات بشكل آمن ودون عوائق إلى جميع المناطق مع مراقبة مستقلة لضمان وصول الحصص إلى مستحقيها لأن أي تأخير يعني مزيدا من الأرواح المهددة ومزيدا من الأجساد الهزيلة
الحل الجذرى
أما الحل الجذري فلا يمكن أن يتحقق إلا بوقف شامل لإطلاق النار وفتح الطرق والموانئ أمام التجارة والإغاثة وإنعاش الاقتصاد ودعم العملة وتثبيت الأسعار، وعندما تتوقف الحرب يعود الحقل إلى الإنتاج وتعود السوق إلى العمل ويتراجع الجوع خطوة بعد خطوة.
هذه ليست مجرد أرقام، بل صرخة استغاثة من بلد يقف على حافة المجاعة، اليمن يحتاج إلى تضامن حقيقي وقرارات سياسية شجاعة وتمويل لا ينقطع، لأن الحق في الطعام حق أساسي غير قابل للتجزئة وإنقاذ الملايين ممكن إذا توافرت الإرادة.
مراقبون يحددون عناصر المسار العاجل
-توفير تمويل كافٍ ومستدام لبرامج الغذاء والصحة والمياه والتغذية لضمان استمرار التوزيع دون انقطاع.
-فتح ممرات إنسانية آمنة تصل عبرها المساعدات إلى كل المحافظات دون عراقيل أو قيود.
-زيادة التنسيق بين المنظمات الأممية والجهات المحلية لضمان وصول المساعدات للفئات الأكثر ضعفًا وبأسرع وقت.
-دعم برامج التغذية العلاجية للأطفال والنساء الحوامل والمرضعات وإنشاء مراكز متنقلة في القرى النائية.
-توفير دعم عاجل للزراعة المحلية من خلال البذور والأسمدة والري الحديث لضمان إنتاج محاصيل أساسية في موسمها القادم.
المسار الجذري طويل المدى
-التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار وبدء عملية سياسية تضمن استقرار البلاد.
-إعادة فتح الطرق والموانئ والمطارات أمام التجارة والإمدادات الغذائية.
-إنعاش الاقتصاد عبر دعم العملة المحلية وتثبيت أسعار السلع الأساسية.
-إطلاق برامج عمل نقدي وتوظيف لخلق فرص دخل حقيقية للأسر بدلاً من الاعتماد الدائم على المساعدات.
-الاستثمار في البنية التحتية الزراعية ومشاريع حصاد المياه وإدارة الموارد الطبيعية لضمان الأمن الغذائي المستدام.
ويرى المراقبون أن الجمع بين الإغاثة الفورية والإصلاحات الهيكلية هو السبيل الوحيد لوقف الانحدار نحو المجاعة،
فالجوع في اليمن ليس أزمة غذاء فقط، بل أزمة حرب واقتصاد وإدارة موارد تحتاج إلى حلول شاملة ومتزامنة.
