مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: غربيون أكثر من أهل الغرب

إذا كان الفقير القانع الأبيّ يتلقى ضربات الفقر، ويتحمل لدغات البؤس والضيق صابرًا محتسبًا حافظًا ماء الوجه، فلا يمد يده إلى أحد يتسوله، لأن كرامته تأبى عليه ذلك، وذُلّ السؤال يمنعه من الاستجداء، والقناعةُ عز المعسر.. فيفضل الضُرّ بعزة على اليسر بذلة..

 

ذل السؤال شجىً في الحلق معترض

من دونه شرَق من خلفه جَرَض

 

فكيف الغنيّ الذي آتاه الله من فضله، ووسّع له في رزقه، وأنعم عليه بنعم كثيرة وكثيرة..

كيف يسوغ له عرفًا أو خلقًا، أو يجوز له شرعًا أن يطمع في مال غيره، أو يتحلب فمه على ما في يد غيره، فضلّا عن أن يمد يد السؤال إلى الناس يطلب فضلهم وإحسانهم وكرمهم..

ولكن – مع الأسف – هذه هي قصة الكثيرين منّا – نحن المسلمين الأغنياء بثروة «الإسلام» العظيمة – مع الحضارة الغربية.. يحذون حذوها، ويشدون بألحانها في أجمل النغمات، ويسبحون بحمدها، ويمجدونها، ويعتزون بالانتماء إليها اعتزازًا يجعلهم يبدون غربيين أكثر من أهلها أنفسهم..

إنهم ينظرون إليها نظرة الأدنى إلى الأعلى، ونظرة المغلوب إلى الغالب، والتابع إلى المتبوع، والتلميذ إلى الأستاذ.. مؤمنين أشد الإيمان بنظرية: لا سبيل إلى رقي المسلمين إلا أن يتبعوا الحضارة الغربية في خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يُحَب منها وما يُكره، وما يُحمد منها ويعاب.. كما كان قاله البعضُ – منا – ممن تلقى الدراسة في جامعات أوربا..

وهي دعوة مرفوضة رفضًا باتًّا، ونظرة غير صحيحة أصلًا، وغير منسجمة – لا قليلًا ولا كثيرًا – مع المزاج الإسلامي الأصيل: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.

 

هذا. وما بُدٌ من أن نعترف – والاعتراف بالفضل لذويه من مبادئ ديننا الحديث – بأن الحضارة الغربية لها دور لا يستهان به في القيام بالاختراعات والمكتشفات الحديثة المدهشة، التي سهّلت الحياة وقرّبت المسافات، أو قل: محتها وقضت عليها، وجعلتها قصة ماضية تروى، ووصلت إلى القمر، وغزت الفضاء، وأوغلت في البحار غائصة في أعماقها، ويسّرت التواصل تيسيرًا لم يكن يحلم به أحد منا إلى الماضي القريب.

فلا ننكر أن الغرب نفع وأحسن وأصاب.. ولكن ضرره أكبر من نفعه، وإساءته أكثر من إحسانه، وخطؤه أفحش، وصوابه أتفه..

 

ومعلوم أن الإسلام لا يحظر على الاستفادة من الأدوات والوسائل والمكتشفات، التي تيسر للمرء مهمته، وتنفعه في معالجة شؤون حياته، وتريحها، وتجعلها ناعمة راضية..

فلا أحد يمنع من الاستفادة مما أحدثه الغرب من وسائل التسهيل والإراحة وتنشيط أمور الحياة… ، فالحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها..

فإلى هذا الحد معقول ومسموح للمسلمين بالتعامل مع الغرب وحضارته..

و إلى هنا تنتهي الإشارة الخضراء…

أما تبني الحضارة الغربية كمنهج الحياة، والإيمان بتصوراتها الفكرية والعقدية، كإيماننا بثوابتنا.. أو أشد… فمن هنا تبدأ الإشارة الحمراء.. ولن يسمح بتجاوزها.

 

الآراء والنظريات نتاج العقول والقرائح، ومن ثمرات التفكير والنظر من البشر، والبشر يخطئ ويصيب.. فلا يمكن أن نقبلها – الأفكار الغربية – كوحي من الله، بل نغربلها.. ونحكها على محكنا الإسلامي، فما وافق منها أصولنا، رحبنا به، وما عارض منها ثوابتنا رفضناه.. ولا نبالي!

ولكن – للأسف الشديد – صار كل ما يأتي من الغرب من الأفكار والعادات وأنماط السلوك مرحبًا به، متأكَّدًا من صحته وصوابه، صالحًا للعمل والتطبيق، ولا مجال فيه للنقاش أو الجدل.

وهنا نقطة التوقف.. ومقام النظر..

يا أبناء أمتي -وأخاطب منها الشباب خاصة-: الحضارة الغربية غير جديرة بأن نتبعها اتباعًا أعمى..

إنها: {كسراب بقيعة يحسبها الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه}.

لماذا ننظر إلى هنا وهناك؟

ونحن أغنياء بما عندنا من العلم المستيقن الثابت، والتراث والحضارة والثقافة والماضي المجيد..

والغني لا يجوز له أن يتسول…

فلا يجوز لنا أن نترك الأفضل الأعلى، ونجري – عبثًا – وراء الأردأ الأدنى، أو نتسول.. أو نطمع في الذي في يد غيرنا..

عار علينا – ونحن أصحاب أرقى وأعلى وأكمل حضارة – أن ننظر إلى حضارة الآخرين بنظرة الطمع أو الاستشراف أو الانبهار..

لقد جعلنا الله تعالى – نحن المسلمين – متبوعين موجِّهين.. لا موجَّهين – بفتح الجيم – تابعين طفيليين، لاهثين وراء السراب..

وجعلنا في مقام القيادة والريادة..

والقائد يصدر التعليمات.. ولا يتلقاها.. والرائد يتقدم القوم، وينصحهم، ويسعى في خيرهم، ويحذرهم من كل ما يؤذيهم.

فلنعرف مكانتنا وقيمتنا.. ولا نتنازل عن المقام الذي وضعنا الله فيه، فشرفنا به تفضلًا منه – تعالى – وكرمًا..

 

صراحةً وبدون خوف لومة لائم.. الحضارة الغربية غير جديرة بالتقليد والاحتذاء للمسلمين خاصة..

لأن بينها وبين حضارتنا الإسلامية بعد المشرقين..

فهي – الحضارة الغربية – مادية بحتة، وحضارتنا ربانية محضة..

كيف يمكن السير على منوال تلك الحضارة، التي تُفَضّل فيها الكلاب على البشر.. وتَلقى من الرعاية ما لا يتصور، وتُعتَبَر أعز وأكرم من الوالدين العجوزين، اللذين يطردهما الابن البار من البيت، ويلقيهما في دور المسنين.

الحضارة التي لا تعرف للطهارة والطهر والعفاف وغض البصر وصلة الأرحام والبر معنى..

الحضارة العقيمة عن الفضائل الإنسانية والأهداف السامية النبيلة..

ولقد أصاب من قال : إن الإنسان الغربي لا يزال يعيش كما كان يعيش الإنسان البدائي في الغابة، هواه إلهه، وشهوته شرعه، وغريزته دليله، وقوته عدته.. و : « من استهدى الأعمى، عمي عن الهدى ».

فعجبًا للمسلمين الذين يرغبون في مثل هذه الحضارة، ويرغبون عن حضارتهم، التي لم ولن تجرب الدنيا مثلها روعة وشمولًا، وخيرًا للإنسانية جمعاء.

 

ألا.. إن الذين ينظرون نظرة ازدراء إلى ثوابتهم، يسقطون عن الأعين..

وعملهم هذا نابع من مركب النقص والنفسية الانهزامية، التي تنتجها – غالبًا – الدراسة في الجامعات العصرية، أو معايشة أهل الغرب أو معاشرة المثقفين بالثقافة الغربية..

ألا.. إن الاعتصام بالجذور والمبادئ ضمان للنجاح..

والتنازل عن الثوابت والأصول جرّ إلى الخذلان، ومُؤدٍّ إلى عدم الاحترام من قِبَل الآخرين.. فالذي لا يحترم نفسه، يُحرَم الاحترام من غيره.

يجب أن نظل دائمًا معتزين بثقافتنا، متمسكين بمبادئ عقيدتنا، أينما كنا..

يجب أن يكون ثباتنا على ثوابتنا ثبات الجبل الأشم، وصمودنا عليها صمود الحديد الأصم..

لا جرم أن الحضارة الغربية متهافتة آيلة للسقوط، معرضة للانحطاط الأكيد بشهادة العارفين بحقيقتها من أهلها أنفسهم.. وقد بدأت – فعلًا – تتراجع، وتصاب بالسوس الذي ينخر كيانها، ويهدد أساسها، ويقوض بنيانها..

فكل من انحرف عن الفطرة، وبنى على غصن هش، وتحدى الطبيعة، وحاد عن الصراط السوي، زائل لا محالة.. عاجلًا أو آجلًا.. مهما بدا قويًا متماسكًا، آمنًا مضمونًا..

لقد آن الأوان أن ينتفض المارد الإسلامي العملاق.. فقد طال نومه وكثرت استراحته، وبعد عهده بالحركة والنشاط، والعمل والإبداع..

وقد استغلوا غفوة المارد، وهمود العملاق..

يجب أن تعود إلينا ثقتنا بشخصيتنا، واعتزازنا بهويتنا..

فلا خير ولا فلاح لنا إلا في إسلامنا، الذي ارتضاه الله لنا دينا..

 

(ليلة الجمعة: ٢ من ربيع الأول ١٤٤٦ھ – ٥ من سبتمبر ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى