بحوث ودراسات

97 عامًا من التأثير والصمود: هل تنجح جماعة الإخوان في عبور المئوية؟

أحمد هلال

في مثل هذه الأيام، منذ 97 عامًا، شهدت مدينة الإسماعيلية في مصر تأسيس واحدة من أكثر الحركات الإسلامية تأثيرًا في القرن العشرين: جماعة الإخوان المسلمين، على يد مؤسسها الإمام حسن البنا عام 1928.

وقد جاءت هذه النشأة في وقت بالغ التعقيد، حيث كانت الأمة الإسلامية والعربية تمر بتحولات كبرى، أبرزها سقوط الخلافة العثمانية وتنامي النفوذ الاستعماري الغربي في مختلف الأقطار. ومنذ ذلك الحين، خاضت الجماعة مسيرة طويلة من العمل والدعوة والمحن والإنجازات، أثرت في مصير مجتمعات بأكملها، ولا تزال تثير جدلًا واسعًا حول أدوارها وتاريخها ومستقبلها.

أولًا: ظروف النشأة والتأسيس

جاءت ولادة الجماعة في مرحلة من الفراغ السياسي والروحي في العالم الإسلامي. فقد كانت النكبة الكبرى بسقوط الخلافة الإسلامية عام 1924 بداية الانهيار الشامل للمشروع الإسلامي السياسي، وظهرت تيارات التغريب والفكر القومي، وتسللت أفكار العلمنة والتبعية للغرب إلى المجتمعات الإسلامية. أما الواقع المصري فكان يعاني من الاحتلال البريطاني، وفساد النخب، وتراجع القيم الإسلامية.

في هذا السياق، رأى حسن البنا، المدرس الشاب ذو الخلفية الأزهرية، أن الإسلام ليس فقط عقيدة وشعائر، بل نظام شامل للحياة يجب أن يستعيد دوره في توجيه السياسة والاقتصاد والاجتماع. فأسس الجماعة بهدف “إعادة الإسلام إلى قيادة المجتمع”، عبر إحياء القيم الإسلامية، وبناء الفرد الصالح، وتكوين الأسرة المسلمة، وإصلاح المجتمع، ثم إقامة الدولة الإسلامية، وإعادة الخلافة. وقد لاقت دعوته قبولًا واسعًا، خاصة بين الفئات الشعبية والطبقة المتوسطة.

ثانيًا: المنهج والفكرة والحركة

تقوم جماعة الإخوان على منهج شمولي للإسلام، ترى فيه دينًا ودولة، عبادة وقيادة، مصحفًا وسيفًا، يربط بين العقيدة والعمل، وبين الدين والسياسة. وانطلقت من مبدأ أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ويجب أن يكون مرجعية في كافة مجالات الحياة.

اتسمت الجماعة بالتركيز على التربية والبناء الداخلي للفرد، وغرس مفاهيم الطاعة والانضباط، وتوسعت في إنشاء “الأسر” التربوية، والمدارس، والنوادي الاجتماعية. ثم انخرطت في العمل السياسي، وشاركت في المقاومة ضد الاحتلال البريطاني، وأسست “النظام الخاص” للقيام بأعمال خاصة تُصنّف في نطاق الدفاع عن المجتمع ضد الاستعمار البريطاني.

توسعت الجماعة لاحقًا إلى خارج مصر، وشكلت شبكة إقليمية ودولية، وتفرعت عنها حركات مماثلة في بلاد عديدة، أصبحت مرجعية للحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وقدّمت خطابًا إسلاميًا معتدلًا مقارنةً بالتيارات المتشددة.

ثالثًا: التأثير في المجتمعات الإسلامية والعربية

كان لجماعة الإخوان تأثير عميق في المجتمعات الإسلامية والعربية، ويمكن تلخيصه كالتالي:

1- التأثير الفكري والإصلاحي:

نشرت الفكر الإسلامي الوسطي، وواجهت التيارات اليسارية والعلمانية.

ساهمت في إحياء الفكر السياسي الإسلامي، وأكدت على أن الشريعة يجب أن تحكم الحياة العامة.

أثّرت في الفكر الإسلامي الحركي، وأنتجت قيادات فكرية من أمثال: سيد قطب، يوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي.

2- التأثير الاجتماعي والديني:

أنشأت شبكة ضخمة من الجمعيات الخيرية والمدارس والمستشفيات.

ربطت الدين بالسلوك اليومي، ودفعت باتجاه الالتزام الفردي بالأخلاق الإسلامية.

عملت على تحقيق التكافل الاجتماعي في بيئات فقيرة ومهمشة.

3- التأثير السياسي:

لعبت دورًا بارزًا في مقاومة الاستعمار البريطاني، وفي القضية الفلسطينية عبر دعم المقاومة.

كانت قوة سياسية جماهيرية في مصر، ونافست في الانتخابات، وساهمت في إعادة الوعي السياسي والديني لدى الشعوب، خاصة الطبقة الوسطى.

رابعًا: المحن والابتلاءات التي تعرضت لها الجماعة.. حتمية أم يمكن تجاوزها؟

محطات المحن:

1- عهد الملكية (1948–1949): حلّ الجماعة واغتيال حسن البنا.

2- عهد عبد الناصر (1954–1970): محاكمات وإعدامات وسجون شديدة.

3- عهد مبارك: تضييق قانوني واعتقالات دورية، مع سماح جزئي بالعمل الاجتماعي.

4- ما بعد الثورة (2011–2013): وصول للحكم ثم انقلاب دموي، وإبادة سياسية شاملة.

هل كانت هذه المحن حتمية؟

من زاوية السنن الكونية:

محنة الجماعات الإصلاحية ليست استثناء؛ فالسلطات المستبدة غالبًا ما تقمع الحركات التي تسعى للتغيير.

النصوص الشرعية تشير إلى أن الابتلاء سنة ثابتة: “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم…”.

من زاوية الأداء السياسي:

في بعض المحطات، كانت الجماعة تفتقر إلى المرونة السياسية، وأخفقت في بناء تحالفات متينة مع قوى مدنية.

بعد الثورة، اندفعت نحو السلطة بسرعة دون تحصين التجربة شعبيًا، ولم تحسن تقدير حجم المعارضة الداخلية والخارجية.

رغم ذلك، بعض المحن كانت ستحدث بأي حال؛ لأن النظم الاستبدادية لا تقبل بالتغيير، مهما كان تدريجيًا أو سلميًا.

العوامل الخارجية:

تآمر إقليمي ودولي خشي صعود الإسلاميين، وسعى لإجهاض تجربتهم، خاصةً من قبل أنظمة عربية رأت فيهم تهديدًا لوجودها.

 جزء من المحن حتمي كقدر تاريخي يواجه الإصلاحيين.

لكن جزءًا منها كان يمكن تجاوزه بتقدير أعمق للواقع، ومهارة سياسية أعلى، ومراجعة مستمرة لوسائل العمل.

خامسًا: ما حققته الجماعة عبر تاريخها من إنجازات ملموسة

الانتشار العالمي:

أصبحت جماعة الإخوان حركة عالمية لها وجود في أكثر من 80 دولة، وتأسست منها أحزاب قوية (النهضة في تونس، العدالة والتنمية في المغرب، حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن…).

تأثير فكري:

أثّرت في أجيال من المفكرين والعلماء، وأسهمت في صياغة خطاب إسلامي معتدل، متوازن بين الأصالة والمعاصرة.

إنجازات سياسية:

فازت في انتخابات حرة في مصر بعد الثورة، ووصلت إلى الحكم، وهو ما لم يتحقق لحركة إسلامية قبلها.

الحفاظ على الهوية:

نجحت في مقاومة التغريب، وحفظت الهوية الإسلامية في مجتمعات كانت مهددة بفقدانها.

إحياء العمل الخيري:

أعادت مؤسسات الوقف والعمل التطوعي إلى الحياة، وساندت الفقراء والمحتاجين.

صمود تنظيمي:

رغم المحن، ظلت الجماعة صامدة تنظيميًا، وقادرة على التكيف.

سادسًا: هل حققت الجماعة كثيرًا من أهدافها منذ النشأة؟

نجحت في نشر رسالتها عالميًا، وترسيخ فكرة “الإسلام نظام شامل”.

تمكنت من التأثير على الأفراد والمجتمعات، وشكلت قاعدة شعبية واسعة.

فشلت في تحقيق الاستقرار السياسي أو بناء مشروع دولة مستدامة حتى الآن. لكنها أسست قاعدة سياسية قوية ووعي مجتمعي مستنير يؤمن بالتغيير السلمي والإصلاح السياسي وحاضنة شعبية واسعة تستطيع بناء دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية عندما تتغير بعض الظروف الإقليمية والدولية والسياسية الحالية.

يمكن القول: حققت أهدافًا فكرية واجتماعية، لكنها لم تحقق بعد أهدافها السياسية الكبرى، مثل إقامة نظام حكم إسلامي عادل مستقر.

سابعًا: تأثير المتغيرات السياسية في الشرق الأوسط على مستقبل الجماعة

التطبيع العربي مع إسرائيل، وثورات مضادة، وتغول الاستبداد، كلها قلصت الحريات العامة.

صعود التيارات الليبرالية واليسارية الجديدة زاد الضغط على الحركات الإسلامية.

انشغال الدول الكبرى بملفات أخرى (الصين، روسيا، الطاقة) خفف من الضغط الغربي على الأنظمة الاستبدادية، وأضعف فرص التغيير.

رغم ذلك، فشل مشاريع التطبيع والاستبداد في تحقيق الرفاه والاستقرار، مما قد يفتح نافذة مستقبلية للإصلاح.

ثامنًا: أين ستكون الجماعة بعد اكتمال المئوية الأولى؟

أمام الجماعة خياران:

التجدد والانفتاح عبر مراجعة داخلية، وتحول إلى حركة مدنية إصلاحية مرنة.

أو الجمود والانكماش، مع استمرار القمع، مما سيجعلها تقتصر على “الرمزية التاريخية”.

ستظل الجماعة حاضرة فكريًا، ولو فقدت حضورها السياسي مؤقتًا.

مستقبلها مرتبط بقدرتها على تطوير خطاب يلبي احتياجات الشباب والواقع الجديد.

خاتمة

97 عامًا من العمل والدعوة والمحن والنجاحات تجعل من جماعة الإخوان المسلمين تجربة فريدة، لا يمكن تجاهلها. وبين من يراها حاملة مشروع نهضة، ومن يتهمها بالجمود السياسي، تبقى حقيقة واحدة: أنها أثّرت بعمق في العالم الإسلامي. ومع اقتراب المئوية، فإن المراجعة العميقة، والاستعداد للتحول والتجديد، قد يكونان السبيل لعودة مؤثرة في المشهد السياسي والاجتماعي..

ولا زالت الجماعة تحمل مقومات التأثير والبقاء، ولا تزال فاعلة ومؤثرة في الأحداث السياسية بشكل كبير رغم القمع والتعذيب والسجون والمعتقلات.

ولازال بنيانها متماسك وشفاف ونظيف وعقلاني ومحدد الأهداف والاستراتيجية، ترقب الفرصة التاريخية لإعادة التوازن والتموضع والحضور وتحقيق الهدف المنشود الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى.

وان غدا لناظره قريب.

أحمد هلال

حقوقي وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights